الأربعاء، 15 فبراير 2012

الأســـتاذ يتحدث إلي الأخبار (( ٣ / ٣ ))

الأســـتاذ يتحدث إلي الأخبار (( ٣ / ٣ ))
مصر أمام لحظة حقيقة ‮.. ‬و گلام عن المستقبل
14/02/2012 11:54:03 م
















هيكل‮: ‬مراحل الانتقال لا تدار بالارتجال

گيف نـــسَــــلـــــم الســـــلطـة؟‮!‬

لأول مرة في مصر هناك تهديد لفگرة الدولة

هناك محـاولات للاستيلاءعلي الثـورة العربيـــة

أوباما ليس‮ »‬جنايني‮« ‬الربيع العربي‮.. ‬ومجلس التعاون الخليجي ليس هو مجلس قيادة الثورة العربية من أجل الحرية والديمقراطية

ما يجري في مصر‮ ‬يبدو أحيانا‮ »‬حفلة زار‮« ‬داخل حقل ألغام‮ !‬

لو گنا أخذنا بفگرة مجلس لرئاسة الدولة لگان علي القمة رجال في قيادة جامعة تستطيع إتمام الانتقال

هيگل‮: ‬المصائر لا تتقرر تحت الضغوط
والتقدم لا يتحقق بالهرب إلي الأمام

كيف يمكن ترتيب الانتقال في‮ ‬غياب
شباب يحمل روح الثورة

الظروف تقتضي دخول شباب قادر علي الظروف
الضوابط والتوازنات مطلوبة في الدساتير‮.. ‬لكن كيف؟‮!.. ‬وبمن؟‮!‬


هذه المرة في‮ »‬برقاش‮«.. ‬حيث المنزل الريفي لـ»الأستاذ‮« ‬غرب مدينة الجيزة‮. ‬يجلس‮ »‬الأستاذ‮« ‬في حديقة منزله الفسيحة،‮ ‬تحت شمس خجلي،‮ ‬تتدثر بين حين وآخر بالسحب‮. ‬صوت السكون محبب لـ»الأستاذ‮«‬،‮ ‬تختلط به أصداء نسمات رياح باردة،‮ ‬تعانق أوراق شجر المانجو المصطفة علي جانبي طرقات المزرعة‮.

أجلس إلي‮ »‬الأستاذ‮« ‬يطالع أوراقا،‮ ‬ويرنو بعيداً‮ ‬نحو الأفق‮. ‬إنه يعشق الاتساع والامتداد،‮ ‬لا يحب أن‮ ‬يرتطم النظر بجدران،‮ ‬مثلما لا يطيق أن تُحتجز الأفكار تحت أسقف أو وراء حواجز‮.

أقلب بصري في المكان،‮ ‬وأتنسم عبير النجيل الذي يذكرني بأيام صبا وبراءة قلب أخضر،‮ ‬ومع العبير يختلط عبق تاريخ جرت صياغة فصوله في هذا المكان،‮ ‬في سنوات الغليان،‮ ‬وأيام الانفجار،‮ ‬ولحظات النصر،‮ ‬ومعارك السلاح والسياسة‮.

تشتد رياح الشتاء الندية في‮ »‬برقاش‮«‬،‮ ‬ويفضل‮ »‬الأستاذ‮« ‬أن ننتقل إلي داخل المنزل أمام المدفأة‮.

وعلي أدخنة سيجار‮ »‬الأستاذ‮« ‬وسجائري،‮ ‬نواصل حوارنا‮.‬
أعرف أن‮ »‬الأستاذ‮« ‬منشغل بفكرة كتاب جديد عن‮: »‬كيف وصلنا إلي هنا؟‮!«.. ‬ومن عنوان الكتاب،‮ ‬أنطلق لأكمل أسئلتي‮.‬

لم‮ ‬يكن المطلوب إعادة توزيع السلطة‮..‬ولكن إعادة بناء الدولة

في كل التجارب الثورية لم يحدث أن كان الانتقال من رجل واحد إلي آخر‮.. ‬ذلك يحدث في الانقلابات

‮ ‬أسأل‮ »‬الأستاذ‮«: ‬هذا ما وصلنا إليه‮. ‬نحن‮ -‬كما قلت‮- ‬في مأزق‮.‬
أين المخرج؟‮!.. ‬وكيف نجتاز عنق زجاجة مرحلة الانتقال،‮ ‬ونضع أقدامنا علي طريق المستقبل؟‮!

‮ ‬الأستاذ هيكل‮:‬

إذا أردنا أن نتكلم عن المستقبل،‮ ‬وما العمل للخروج مما نحن فيه،‮ ‬والوصول إلي ما نرجوه‮ - ‬فإني أستأذنك أن تسامحني مرتين‮:

المرة الأولي‮: ‬إذا بدا ما أقول مرهقا لصبرك‮.

والمرة الثانية‮: ‬إذا بدا ما أقوله متجاوزا من صحفي ليس له أن يُثقِل علي الناس بما هو مزعج لهم‮!!‬


سوف أبدأ بطرح مجموعة أمور نتفق عليها ونمشي علي أساسها إلي أي موضوع نريد الوقوف أمامه‮.

 ‮  ‬نحن بلد في أزمة خطيرة تهدد وجود الدولة فيه،‮ ‬وذلك تحدٍ‮ ‬لم يواجهه‮ ‬هذا البلد علي طول ما واجه في تاريخه الحديث من تجارب‮... ‬جرَّب الثورة‮... ‬وجرَّب الحرب‮... ‬وجرَّب الغزو،‮ ‬ولكنه لم يواجه في ذلك التاريخ الحديث تجربة خطر تهديد الدولة‮!!‬
 ‮  ‬أن الشعب المصري بحسه التاريخي ثار علي الأوضاع التي‮ ‬أوصلته إلي الأزمة،‮ ‬وكانت ثورته بطلائع شبابه وكتل جماهيره،‮ ‬وفي حماية جيشه،‮ ‬وتجلت إرادته في مطلبين‮: ‬مواجهة التدهور في أحواله،‮ ‬والانتقال منها إلي أحوال مختلفة،‮ ‬يتوقف معها التدهور،‮ ‬وتنفتح أبواب الأمل‮.

 ‮  ‬وكانت هذه المهمة ثنائية صعبة تكاد تكون مستعصية،‮ ‬وكان‮ ‬الانتقال‮ ‬يحتاج إلي فترة‮.. ‬إلي فترة انتقال تنزاح فيها أحوال قديمة رفضها الناس،‮ ‬وتهيئة الأسباب لأحوال جديدة يطلبونها،‮ ‬وهذه خطورة فترة الانتقال كما أسميناها،‮ ‬وكما أسماها مَنْ‮ ‬قبلنا كل شعب واجه أزمة بهذا الحجم،‮ ‬وتحرك فيها بالثورة،‮ ‬وأمسك بيده زمام مقاديره،‮ ‬وتحمَّل مسئولية مستقبله بشجاعة وتفاؤل،‮ ‬لكن الحقائق واجهته بما لم يتصوره‮!!‬


وإذا اتفقنا علي هذه الأمور الثلاثة‮: ‬الأزمة‮ - ‬والثورة‮ - ‬ومرحلة الانتقال،‮ ‬وخطوْنا بعد ذلك خطوة،‮ ‬فسوف نكتشف أننا ساعتها وقعنا في الخطأ الأول والأكبر الذي وصل بنا إلي طريق مغلق بشدة‮... ‬بكتل خرسانية لا نعرف كيف نزيحها؟‮.

والسبب الأساسي أننا لم نفهم فكرة المرحلة الانتقالية،‮ ‬قصَّرنا فهمنا لها علي أنها انتقال من سلطة إلي سلطة،‮ ‬وليس من حال إلي حال‮!!

بمعني أن معظم الأطراف الذين شاركوا في فعل الثورة أخطأوا في تقدير حسابات المرحلة الانتقالية،‮ ‬فلم يقدِّروا أن الانتقال المطلوب يجب أن يكون في الحقائق،‮ ‬وليس في المواقع،‮ ‬أي أن الدولة وبنيانها ومؤسساتها‮ - ‬هي ما يجب أن يتغير،‮ ‬وليس مجرد إعادة توزيع السلطة فيها‮.

الدولة هي قضية التغيير الكبري،‮ ‬وليس مواقع السلطة وأشخاص الحكام‮!!

لكن معظم الأطراف تصرفوا بمقدار ما فهموا‮!! - ‬فقد ركزوا جميعا علي السلطة،‮ ‬في حين أن الدولة نفسها كان يجب أن تكون موضع التركيز‮.

لم نقدِّر أن مرحلة الانتقال هي في صميمها مرحلة تأسيس‮ ... ‬محاولة اختيار أفق للمستقبل‮ ... ‬رسم خريطة طريق‮ (‬مع نفوري من التعبير من كثرة ما ساء استعماله‮).

وأكيد فإنه ليس في اختصاص مرحلة الانتقال أن تقيم البناء،‮ ‬ولكن أن تضع الأساس،‮ ‬لأن الأساس يحتاج إلي رؤية يتوافق عليها الجميع،‮ ‬وأما مرحلة البناء فيمكن لأي فصيل أو جماعة سياسية أن تقوم بمهامها،‮ ‬إذا كانت حائزة لثقة مُلاك البناء‮.

صحيح أنه ليس في اختصاص مرحلة الانتقال أن تحقق‮ ‬غايات المستقبل،‮ ‬ولكن في اختصاصها رسم خريطة الطريق إليه،‮ ‬ثم تترك لقوافل السياسة مهمة الأسفار عليه إلي المقاصد‮.

هذه خطورة مرحلة الانتقال،‮ ‬لكن فرصة الفهم الدقيق لها أفلتت منا،‮ ‬لأن بريق سلطة الدولة،‮ ‬والسباق نحوها‮ - ‬ألهانا وشدنا إلي‮ ‬غير الهدف السليم،‮ ‬ومثل هذا حدث من قبل في التاريخ‮!!

هناك مثال شهير في الزمن القريب لهذا النوع من الاندفاع إلي الوهج،‮ ‬ونسيان الحقائق،‮ ‬ثم تذكرها بعد فوات الأوان‮!!‬
وأعرف مقدما أنه مثال‮ ‬غير ملائم من ناحية اللياقة السياسية،‮ ‬وإن كنت أراه قادرا علي تصوير الواقع أكثر من‮ ‬غيره‮.‬
في شهر يونيه سنة‮ ‬1940‮ ‬كان‮ "‬هتلر‮" ‬يستطيع أن ينتصر في الحرب العالمية الثانية،‮ ‬بعد أن نفذت جيوشه إلي قلب فرنسا،‮ ‬وعزلت بقايا الجيش الفرنسي عن الجيش الذي أرسلته بريطانيا لخوض الحرب معها علي أرضها،‮ ‬ولكن الجيش الفرنسي راح يتفكك ويتبعثر في عمق فرنسا،‮ ‬والجيش البريطاني يحاول التراجع متماسكا إلي موانئ الشمال‮ "‬دنكرك‮" ‬وغيرها،‮ ‬يقصد عبور بحر المانش إلي وطنه في بريطانيا‮.

وكان علي‮ "‬هتلر‮" ‬أن يختار ويقرر.أفضل ماريشالاته‮ - ‬وبينهم‮ "‬جودريان‮" ‬و"فون بوك‮" - ‬ينصحونه بإعطاء الأولوية لمواصلة الهجوم في الشمال،‮ ‬ومطاردة الجيش البريطاني قبل أن يخرج من فرنسا،‮ ‬قبل أن يكمل الانسحاب إلي ميناء‮ "‬دنكرك‮"‬،‮ ‬ويهرب منها سليما إلي إنجلترا،‮ ‬حتي يستعيد قدرته علي القتال،‮ ‬وفي المقابل فإن‮ "‬هتلر‮" ‬نفسه بخيلائه وأوهامه كان مشدودا إلي الجنوب،‮ ‬مأخوذا بأحلام احتلال باريس،‮ ‬والدخول إلي مدينة النور،‮ ‬والمشي تحت‮ "‬قوس النصر‮"‬،‮ ‬متجاوزا بذلك طموحات مثَلَه الأعلي‮ "‬فردريك الأكبر‮"!!

كان الأولي بـ‮ "‬هتلر‮" ‬أن يسمع صوت ماريشالاته ويزحف شمالا،‮ ‬ويدمر الجيش البريطاني كله وهو ينسحب،‮ ‬ثم لا تقوم لبريطانيا بعدها قائمة،‮ ‬ولا يعود أمامها‮ ‬غير أن تستسلم،‮ ‬وتنتهي الحرب‮.

لكن أضواء باريس،‮ ‬وغواية باريس،‮ ‬وشهوة باريس،‮ ‬وأحلام‮ "‬فردريك الأكبر‮" ‬غلبت عليه،‮ ‬فحوَّل اتجاهه إلي الجنوب‮.‬
ونجا الجيش البريطاني من مصير محتوم،‮ ‬واستطاعت بريطانيا أن تنتظر حتي جاءت الولايات المتحدة لنصرتها،‮ ‬وخسر‮ " ‬هتلر‮" ‬قصده وحربه وحياته‮!!

نوع من ذلك إلي حد ما حدث في مصر بعد الاختراق العظيم لثورة يناير،‮ ‬وبدء مرحلة الانتقال،‮ ‬فقد انخطف الجميع إلي بريق سلطة الدولة،‮ ‬وأيهم يسبق‮ ‬غيره ويحصل عليه،‮ ‬ولم يقدِّر الجميع أن المهمة هي إعادة بناء الدولة،‮ ‬وكيف يمكن الانتقال بها من حال إلي حال‮!!

باختصار،‮ ‬كانت الغلطة الكبري أن الجميع تصوروا مرحلة الانتقال وكأنها من سلطة إلي سلطة،‮ ‬وليس من دولة إلي دولة،‮ ‬وترتبت علي ذلك‮ ‬غلطة ثانية،‮ ‬مؤداها أن مرحلة الانتقال لم تعد مهمة واجبة علي من يقدر،‮ ‬وإنما أصبحت فرصة متاحة لمن يسبق‮!!‬
وهذه بالضبط هي النقطة التي يجب أن نتوقف عندها‮:
‬سوء فهم طبيعة مرحلة الانتقال‮ - ‬سوء فهم مطلبها‮ - ‬سوء فهم إدارتها‮ - ‬ثم سوء تصرف الأطراف فيها‮.‬


‮ ‬قلت‮ : ‬في تقديرك‮.. ‬لماذا أساء المجلس الأعلي للقوات المسلحة فهم طبيعة مرحلة الانتقال‮.. ‬
كيف أخطأ في إدارتها والتصرف فيها؟‮!‬

 ‬الأستاذ هيكل‮:‬

بأمانة فإن المجلس الأعلي للقوات المسلحة كان أول الأطراف‮ ‬الذين فاتهم فهم طبيعة وحقيقة مهام مرحلة الانتقال‮.

فات المجلس أن ما جري ثورة حقيقية،‮ ‬تطلب تغييرا حقيقيا،‮ ‬أي تطلب عقدا اجتماعيا وسياسيا جديدا،‮ ‬أي دولة جديدة‮.

واقتصر الفهم علي أن الثورة كان سببها رفض التوريث،‮ ‬وبما أن المجلس استجاب له،‮ ‬وحمي حق الجماهير والشباب في منعه‮ - ‬إذن فقد انحلت العقدة،‮ ‬وبما أن المجلس أصبح السلطة الجديدة بعد سقوط سلطة‮ "‬مبارك‮" ‬وحلم توريث ابنه‮ - ‬فقد كان له أن يتصرف‮: ‬يدير وربما يحكم‮!!

وبواقع الأمور فإن تصرف المجلس جاء من داخل الصندوق كما يقولون،‮ ‬أي بمنطق سلطة جديدة تدخل إلي موقع سلطة سابقة،‮ ‬ثم حدث أن بقايا السلطة السابقة كانت هي بنفسها،‮ ‬بعينها،‮ ‬بفكرها،‮ ‬هي التي راحت تتولي إرشاد وتوجيه السلطة الجديدة في عملية إعادة توزيع المهام والاختصاصات‮!!

وفيما هو ظاهر أمامي،‮ ‬وبصرف النظر عن التفاصيل،‮ ‬فإن مطلب التقنين للأوضاع الطارئة بعد‮ ‬25‮ ‬يناير أوكل إلي أحد دارسي القانون في المجلس العسكري،‮ ‬وأن الرجل في إطار معارفه وصلاته استعان بخبراء من وزراء عدل،‮ ‬وموظفين سابقين،‮ ‬والنتيجة تصورات ونصائح تحصر التغيير في قضية التوريث،‮ ‬وتحصر ما بعده في قضية إعادة توزيع السلطة،‮ ‬وليس إعادة بناء الدولة،‮ ‬وفي حدود هذا التكليف المحدد فإن لجنة قانونية اجتهدت قدر ما استطاعت،‮ ‬وأخرجت فكرة التعديلات الدستورية والاستفتاء عليها‮.

وجري التصويت عليها في أجواء الحماسة الأولي لحلم الانتقال والتغيير،‮ ‬دون أن يسأل أحد نفسه بما فيه الكفاية عن الانتقال،‮ ‬ومن ماذا إلي ماذا؟،‮ ‬ولا من أجل ماذا إلي‮ ‬غيره،‮ ‬وما هو‮ "‬غيره‮" ‬هذا بالضبط؟‮!!

ولم تمض‮ ‬غير أسابيع حتي بدأت الشكوك وزادت،‮ ‬فقد اكتشف الناس أن ما جري هو مجرد إعادة توزيع للسلطة،‮ ‬شاعرين أن شيئا ما ليس علي ما يرام،‮ ‬وأن ما استفتوا عليه لا يتناسب‮ - ‬في أعماق مشاعرهم وضمائرهم‮ - ‬مع ما تصوروا أنهم ثاروا من أجله،‮ ‬فلم تكن تلك بالضبط حدود القصد فيما يطلبه الناس‮ - ‬وثارت الشكوك بأن الاستفتاء لم يحقق مطلبه،‮ ‬فقد اقتصر علي السلطة في النهاية،‮ ‬ولم يصل إلي بنيان الدولة،‮ ‬ثم إن هدفه‮ - ‬حتي إذا لم يكن ذلك واضحا‮ - ‬هو نقلها إلي وصاية‮ - ‬إذا لم يكن إلي حكم المجلس الأعلي للقوات المسلحة‮!!

وتصاعدت حملة الشك والتشكيك‮.‬




نعم‮.. ‬نحن مع الشعب السوري في ثورته‮..‬

لكن لابد أن تظل ثورته هو ولا‮ ‬يأخذها شريف مكة ولا لورانس ولا اللنبي

هذا هو الفارق بين الجيش والبوليس‮:‬
الجـيـــــش للــدســــتور والبـوليــــس للــقـانــــــون

التصادم في ظاهره صراع
بين شباب‮ »‬متمرد‮«‬
وقيـادة‮ »‬مجروحــة‮«‬
دون سياسة تدخل بين الطرفين
لترد الأمور إلي أصلها

في كل الدنيا‮.. ‬القوات المسلحة في خدمة وجود الدولة وحماية شرعية وفاقها الوطني

القوات المسلحة في أي بلد هي الأكثر قربا من الدستور‮ .. ‬وتلك وظيفة وتكليف وليست وصاية

هــذا مــا لا‮ ‬يـصـح‮ ‬هــــذه اللـحـظــــة ولا يــنــفـــع

‮‬‮ ‬لا تقل لي شيئا عن شرعية مقبولة بلا منازعة لأحد في معادلة السياسة المصرية الآن
‮‬‮ ‬لا تقل لي شرعية المجلس العسگري‮.. ‬فهذه الشرعية دور محدد ليس له حق حگم أو حق وصاية
‮‬‮ ‬لا يصح أن تحدثني عن شرعية الميدان لأن الميدان مگان والمگان لا يگون مصدراً‮ ‬للشرعية
‮‬‮ ‬لا يصح أن‮  ‬يقول أحد أن الدستور جاهز‮ .. ‬فالدساتير تعبير عن حقائق موجودة أو مطلوبة أو مستجدة
‮‬‮ ‬لا يصح أن تتخذ القرارات بذبذبات موجات الإرسال أو بترددات تزحم الفضاء

وتدخَّل بعضهم يطرحون ما أسموه بالنموذج التركي الذي وضعه‮ "‬كمال أتاتورك‮" ‬في دستور سنة‮ ‬1923‮ ‬والذي يعطي القوات المسلحة دورا في المراجعة السياسية التي تضمن سلامة الدولة العلمانية في تركيا،‮ ‬والمشكلة أن هؤلاء لم يدرسوا النموذج
التركي بعمق،‮ ‬وإنما توصلوا مما فهموا إلي أن الدستور التركي يعطي الجيش التركي دور حماية الدولة التركية العلمانية،‮ ‬وكان ذلك فهما يحتاج إلي تدقيق أكثر،‮ ‬فالدستور التركي يعطي الجيش التركي تمثيلا معتبرا في مجلس الأمن القومي التركي‮ - ‬مع القضاء ومع الجامعات‮ - ‬وهذا المجلس مختص بمراجعة القرار السياسي،‮ ‬وضمان أنه لا يخالف الأسس العلمانية للدولة التركية الجديدة‮.‬
ولكن المسألة طُرحت في مصر بطريقة تستدعي التهم،‮ ‬وأولي التهم ظهور ما سُمي بالمبادئ فوق الدستورية،‮ ‬أي وجود مرجعية مبدئية لا تكون سلطتها موضع اجتهاد،‮ ‬ولا يصح المساس بها،‮ ‬ولا حتي بتعديل مواد في الدستور‮.

والفكرة فيها شيء من أصل مفهوم في إعادة بناء الدولة التركية علي نموذج جديد،‮ ‬لكن هذا الأصل جري اختصاره،‮ ‬ثم جري توظيفه بمفهوم أن المطلوب هو إعادة توزيع سلطة الدولة،‮ ‬وليس إعادة بنائها‮.‬


في الواقع أن الدستور الأمريكي وهو أهم دستور في الزمان الحديث‮ - ‬تنبه إلي مشكلة المراجعة السياسية،‮ ‬وكان‮ "‬چيفرسون‮" ‬أول من اجتهد في التعرُّض لهذه الضرورة،‮ ‬حين أطلق مقولته الشهيرة والصحيحة أيضا‮:

‮"‬إن الدساتير تصوغها أفضل العقول،‮ ‬ولكن تنفذها أسوأ الغرائز‮".

ومقصد‮ "‬چيفرسون‮" ‬أن الدساتير في العادة يضعها قادة وساسة وقانونيون مشهود لهم بامتياز،‮ ‬لكنه حين يتم التطبيق الدستوري،‮ ‬ويصل الأمر في النهاية إلي الناخبين في الدوائر والمدن والقري،‮ ‬وفي الشوارع والمراكز والصناديق‮ - ‬فإن أصوات الناخبين تصبح مكشوفة لمؤثرات النفوذ العائلي،‮ ‬والعصبيات،‮ ‬والمال يشتري الأصوات،‮ ‬وسماسرة الانتخابات،‮ ‬وسماسرة التخويف والدعاية والغوغائية وغيرها،‮ ‬وكان‮ "‬چيفرسون‮" ‬يري أنه لابد للممارسة الديمقراطية من ضمانات،‮ ‬وقد حاول وغيره من آباء الدستور مواجهة المشكلة،‮ ‬وتوصلوا إلي تحصين البناء الدستوري الأمريكي بما يلزمه مما أسموه بالضوابط والتوازنات‮ ‬Checks & Balances ‮ ‬وبمقتضي ذلك فقد اتخذت ضمانات منها أن مجلس الشيوخ أصبح مكونا من عضوين عن كل ولاية بالتساوي بين ولايات الاتحاد،‮ ‬بينما أصبح مجلس النواب دوائر يحددها عدد السكان في الولايات المتحدة علي اتساعها،‮ ‬ثم كان إنشاء المحكمة العُليا وتوزيع السلطة بين الإدارة وعلي رأسها البيت الأبيض وبين الكونجرس ممثلا في مجلسيه،‮ ‬وبين المحكمة العُليا‮ - ‬وتصور آباء الدستور الأمريكي أن ذلك ضمان يكفل توزيع ومراجعة ممارسة صنع السياسات والقوانين‮.

وفي إنجلترا جري شيء من هذا النوع بتوزيع للسلطة بين مجلس العموم ومنه وزارة الأغلبية‮ - ‬وبين مجلس اللوردات وهو مشورة الخبرة‮ - ‬وبين العرش ودوره محصور في أن‮ "‬يشير أو يوافق‮" ‬Advice & Consent ‮ - ‬ثم قضاء نموذجي في استقلاله وصحافة كانت ذات يوم أقوي صحافة في العالم‮!!

ثم حاولت دول كثيرة أن تستوحي مطلب الضوابط والتوازنات في القرار السياسي لا تشطح به أغلبية،‮ ‬ولا تسيء إليه ديكتاتورية تستند علي ذرائع أمر واقع،‮ ‬وفي هذا المجال اختلفت الاجتهادات،‮ ‬والقصد واحد‮!!

في التجربة التركية‮: ‬اختار‮ "‬أتاتورك‮" ‬مجلس أمن قومي فيه القوات المسلحة،‮ ‬صحيح،‮ ‬ولكن فيه قوي أخري قادرة ونافذة‮.

وفي التجربة الثورية الإيرانية‮: ‬اختار‮ "‬آية الله الخميني‮" ‬فكرة ولاية الفقيه لمراجعة سلامة التصرفات والقوانين‮.

وقد سمعت بنفسي من‮ "‬آية الله الخميني‮" ‬شرحه لفكرته،‮ ‬وكنا في بيته في‮ "‬قم‮"‬،‮ ‬والغريب أنه كان قريبا من محتوي ما قاله‮ "‬چيفرسون‮"‬،‮ ‬وإن لم يكن‮ "‬آية الله‮" ‬متابعا لمأثورات أبو الدستور الأمريكي،‮ ‬أو عارفا بها‮!!

كنت قد سألت‮ "‬آية الله الخميني‮" ‬عن موضوع‮ "‬ولاية الفقيه‮"‬،‮ ‬وكان رده‮:‬
‮"‬لقد قام الشعب الإيراني بثورة قبل ذلك سنة‮ ‬1906‮ ‬وانحصرت سلطة‮ "‬الشاه‮" ‬لتحل محلها سلطة البرلمان،‮ ‬لكن الانتخابات علي الأساليب المعهودة جاءت ببرلمان تلاعبت به المصالح المالية والقبلية إلي جانب القوي الأجنبية،‮ ‬ثم وصل الحال بهذا المجلس النيابي إلي مبايعة الكولونيل‮ "‬رضا خان‮" ‬إمبراطورا علي إيران،‮ ‬ليؤسس أسرة‮ "‬بهلوي‮" ‬التي تحكَّمت في رقاب الشعب الإيراني،‮ ‬حتي أطاحت الثورة الإسلامية بوريث‮ "‬رضا خان‮" ‬وهو ابنه‮ "‬محمد رضا بهلوي‮".

كان في هواجس‮ "‬الخميني‮" ‬نفس ما ساور‮ "‬چيفرسون‮" ‬و"أتاتورك‮" ‬وهما يفكران في الضوابط والتوازنات الضرورية لصيانة الممارسة الديمقراطية،‮ ‬وقد حاول كل رجل من الثلاثة حل المشكلة،‮ ‬واختلفت الأساليب،‮ ‬واحد واجهها بسلطات قادرة علي موازنة بعضها،‮ ‬وثانٍ‮ ‬واجهها بمجلس أمن قومي،‮ ‬وثالث واجهها بولاية الفقيه مع مجلس خبراء لتشخيص مصلحة النظام‮!!‬


اسمح لي أن أقول لك‮: ‬إن هذا هو نفس الهاجس الذي دفع‮ "‬جمال عبد الناصر‮" ‬إلي التفكير في تخصيص‮ ‬50٪‮ ‬للعمال والفلاحين في كل المجالس المنتخبة،‮ ‬كان رأيه وقد سمعته عدة مرات،‮ ‬منها مرة كان يشرحه دونا عن كل الناس للملك‮ "‬فيصل‮" ‬ملك السعودية،‮ ‬أثناء قمة الإسكندرية في سبتمبر‮ ‬1964‮ ‬كان الملك قد سأل‮ "‬جمال عبد الناصر‮" ‬أثناء حوار بينهما‮ - ‬في حالة صفاء‮ - ‬عن حكاية العمال والفلاحين،‮ ‬وكانت خشية الملك أن تكون تلك‮ "‬تأثيرات شيوعيين‮"‬،‮ ‬وكان رد‮ "‬عبد الناصر‮": "‬إنه يرجو الملك أن يقدر تركيب مصر الاجتماعي‮... ‬أغلبية الناس في مصر علي الأقل الآن‮ - ‬عمال وفلاحين،‮ ‬وهؤلاء لا يملكون وسائل تمكِّنهم من دخول مجالس التشريع،‮ ‬وإذا لم يضمن لهم علي الأقل حقا في الاعتراض علي ما لا يلائم مصالحهم،‮ ‬فسوف تختل موازين العدل في البلد‮" - ‬أضاف‮ "‬جمال عبد الناصر‮" "‬أنه يعرف أن العمال والفلاحين قد لا يكونون‮... ‬أو كثيرون بينهم‮ -‬علي درجة العلم والكفاءة اللازمة للتشريع،‮ ‬لكنه يريد أن يحفظ لهم علي الأقل حق الاعتراض‮ (‬استعمل‮ "‬جمال عبد الناصر‮" ‬كلمة‮ "‬ڤيتو‮")‬،‮ ‬لرد ما قد يتناقض مع مصالحهم،‮ ‬خصوصا وأن اليمين السياسي قوي بالتقاليد ومتمرس في المحافظة علي المصالح القائمة‮".

ولم أشعر وكنت أتابع حوار الرجلين أن الملك‮ "‬فيصل‮" ‬مقتنع،‮ ‬ولكن‮ "‬جمال عبد الناصر كان مقتنعا في ظروف تحولات اجتماعية كبري في مصر وقتها،‮ ‬بأن من لا صوت لهم في القرار يستحقون حقا مكفولا علي الأقل بالاعتراض عليه،‮ ‬خصوصا إذا كانوا أغلبية صحيحة بين السكان،‮ ‬وبصرف النظر عن الاتفاق مع ذلك الاجتهاد أو الخلاف،‮ ‬فقد كانت تلك هي الفكرة فيه‮ - ‬فكرة الضوابط والتوازنات‮.‬


‮ ‬فكرة الضوابط والتوازنات،‮ ‬ربما أوحت بالمادة التاسعة في المبادئ الدستورية التي رفضتها القوي السياسية ورفضها الشباب،‮ ‬لأنها تحدثت عن دور للقوات المسلحة في حماية الشرعية الدستورية‮.. ‬كيف تتصور دور الجيش في الحياة السياسية بعد انتهاء فترة الانتقال،‮ ‬وسط أصوات تنادي بـ»سقوط حكم العسكر‮«‬،‮ ‬وتدعو المجلس العسكري لترك السلطة فورا؟‮!‬

 ‬الأستاذ هيكل‮:‬

مطلب الضوابط والتوازنات هو الذي أثار موضوع دور الجيش‮ ‬في مستقبل الحياة السياسية المصرية،‮ ‬وبمنطق إعادة توزيع السلطة،‮ ‬مع تزيُّد أن يكون التعبير عن هذا الدور بمواد فوق دستورية،‮ ‬تضع كما يتصورون نوعا من الضوابط والتوازنات‮.

كان الطرح ناقصا وكان قاصرا،‮ ‬وجاءت ردة الفعل إزاءه حادة وعنيفة،‮ ‬تستبد بها الشكوك والريب‮.

لا الذين عرضوا‮... ‬درسوا موضوعهم بما فيه الكفاية،‮ ‬ولا هم صارحوا الناس بدواعيه الأصلية كي تجري مناقشتها‮... ‬عقلا ومنطقا‮!!

وبذلك اختلطت الفكرة والقصد مع المناورة والمراوغة‮!!

ثم كان أن جري في مصر حوار عصبي وعبثي في نفس الوقت،‮ ‬تجلي في عملية شد وجذب،‮ ‬وعناد وتراجع يصعب قبوله في لحظات المصير والخطر‮!!

المظاهرات‮ - ‬تطالب بتسليم السلطة للمدنيين،‮ ‬والمجلس الأعلي يرد بأنه سوف يسلم في الموعد المقرر‮.

والشباب‮ - ‬يصر علي تسليم السلطة فورا وحتي في الميدان،‮ ‬والمجلس الأعلي للقوات المسلحة يزداد شعوره بالحرج‮.

وترتفع الأصوات تنادي بسقوط حكم العسكر‮.

ويشعر المجلس الأعلي للقوات المسلحة بالضيق من الشباب‮.

وتتراكم الشكوك علي الشكوك،‮ ‬وتتصادم المشاعر الغاضبة بالمشاعر الجريحة‮.

وفي مناخ استحكمت فيه العقد،‮ ‬وقع الارتجال في إدارة المرحلة الانتقالية،‮ ‬وكان التصادم في ظاهره صراعا بين شباب‮ "‬متمرد‮"‬،‮ ‬وقيادة‮ "‬مجروحة‮" ‬دون سياسة تدخل بين الطرفين لكي ترد الأمور إلي أصلها،‮ ‬وتفك العقد،‮ ‬بحيث تبين خطوطها الأصلية،‮ ‬وكذلك استحكم سوء الفهم يهدد البلد كله بكارثة‮.

الشباب يعلو هتافه بضرورة خروج العسكر،‮ ‬وبسقوط حكمهم‮.
 ‬
والمجلس العسكري يرد‮: ‬نحن خارجون في الموعد‮.

ويصرخ الشباب‮: ‬بأن الخروج يجب أن يكون فوريا‮.

ويرد المجلس العسكري‮: ‬بأنه سوف يطلب اختصار مرحلة الانتقال،‮ ‬والتسريع في خطاها واختصارها شهرين أو شهرا‮.‬
كأن الفترة الانتقالية إجازة يمكن بالضرورات قطعها،‮ ‬وليست مهام يتعين بالضرورات إنجازها‮.‬


دعني أكن واضحا معك،‮ ‬الشباب أخطأ حتي وإن قلنا إن الشباب معذور في آرائه،‮ ‬لأن الصور اختلطت،‮ ‬والحقائق‮ ‬غابت،‮ ‬وهنا عذره‮.

المسألة ليست سقوط حكم العسكر،‮ ‬فلا أحد يجادل أن الجيش ليس في تكليفه أن يحكم،‮ ‬لكن صياغة الشعار علي هذا النحو إيحاء متجاوز في استعمال الألفاظ،‮ ‬وأيضا في المعاني‮.

وقد يكون مفيدا هنا أن نذكِّر أنفسنا ببعض البدهيات الأساسية في أي فكر سياسي‮.

نذكِّر أنفسنا أولا بأن فكرة الدولة في أساسها وقيامها هي‮: ‬شعب علي أرض،‮ ‬وهو وبإرادته الحرة وبالرِضا الطوعي لكل قواه وعناصره‮ - ‬يصوغ‮ ‬لنفسه ميثاقا للعيش المشترك،‮ ‬متمثلا في دستور مرفوع فوق كل الرؤوس،‮ ‬وفي لحظة وضع الدستور وقبلها فإن أي شعب ينشئ لنفسه قوات مسلحة تدافع عن أرضه،‮ ‬وتحمي ميثاقه الدستوري،‮ ‬بمعني أن القوات المسلحة تحمي قيام الوطن كما تحمي تَراضي قواه داخل كيانه،‮ ‬ولكنها لا تحكمه،‮ ‬وإنما يحكمه الشعب الذي وضع دولته علي الخريطة،‮ ‬وكتب دستورها،‮ ‬وأنشأ جيشها،‮ ‬ووظَّفه بحراسة قيام الدولة،‮ ‬واحتفظ به إلي النهاية حاميا ومدافعا عن موقعها وعن كيانها‮.

أي أن القوات المسلحة في أي بلد هي الأكثر قُربا من الدستور،‮ ‬وتلك وظيفة وتكليف،‮ ‬إلي جانب الكيان الوطني،‮ ‬وليست حلولا في هذا الكيان ولا وصاية عليه‮!!

في كل مدارس الفكر السياسي تبقي القوات المسلحة حامي الدولة وكيانها،‮ ‬وذلك هو الوضع في كل الدول كبيرها وصغيرها،‮ ‬قويها وضعيفها،‮ ‬من الولايات المتحدة الأمريكية إلي جمهورية‮ "‬تاهيتي‮"!!

في كل الدنيا القوات المسلحة في خدمة وجود الدولة‮ - ‬وفي حماية شرعية وفاقها الوطني‮.

الدولة وليس الحكم،‮ ‬لأن الحكم‮: ‬أي ممارسة السلطة بالقانون هو تنظيم لحياة كل يوم،‮ ‬ويقوم البوليس بحراسته وحمايته‮.

وهنا الفارق بين الجيش والبوليس،‮ ‬الجيش للدستور،‮ ‬والبوليس للقانون‮!!‬


هناك ملاحظة تستحق بعض الالتفات،‮ ‬وهي أن دور القوات المسلحة يزيد عادة في دول الجنوب،‮ ‬حيث لم تتأصل ولم تترسخ بعد فكرة الدولة،‮ ‬وذلك ملحوظ حتي في بلدان تتقدم بسرعة مثل الصين والهند وإندونيسيا‮.

بل ونفس الشيء موجود في البلدان المتقدمة وإن داخل إطار‮... ‬أي أن دور القوات المسلحة واقع في صميم الأمن القومي لأي بلد‮.

وقد نتذكر أنه حين أطلق الرئيس الأمريكي‮ "‬دوايت أيزنهاور‮"  ‬صيحته الشهيرة محذرا من سيطرة مجمع صناعي عسكري علي القرار في أمريكا،‮ ‬فإنه كان متخوفا من‮ ‬غواية صناعة السلاح لدي أصحاب المال،‮ ‬يتفاعل مع جنون تطوير وتكديس السلاح لدي العسكريين،‮ ‬وخوف الرئيس الچنرال‮ "‬أيزنهاور‮" ‬أن يؤدي ذلك بالتصاعد إلي صدام نووي بين الاتحاد السوڤيتي وبين أمريكا‮ - ‬بين الرأسمالية والشيوعية‮-  ‬ولو بغير قصد،‮ ‬لأن ذلك يمكن أن يهيئ لأجواء ديكتاتورية هستيرية تحكم أمريكا بالخوف والتخويف وسيناريوهات الرعب‮.

لم يكن يحذر من دور العسكر لأنه هو نفسه كان عسكريا،‮ ‬استدعاه الشعب الأمريكي إلي الرئاسة لدور مقصود،‮ ‬هو أن يقود الحرب الباردة كما فعل في الحرب الساخنة،‮ ‬حين كان قائدا عاما لقوات الحلفاء‮!!

‮ ‬في‮ "‬فرنسا‮" ‬مثلا استدعي الشعب عسكريا آخر وهو الچنرال‮ "‬شارل ديجول‮"‬،‮ ‬وتولي الرجل مسئولية قيادة فرنسا الحرة،‮ ‬وهو ما جعله هو نفسه القائد السياسي لعملية نقل فرنسا من فوضي ما بعد التحرير إلي مرحلة تثبيت الدولة الفرنسية واستعادة رواسيها،‮ ‬وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف فإن‮ "‬ديجول‮" ‬لم يكتف بدوره في المرحلة الأولي بعد التحرير سنة‮ ‬1945‮ ‬وإنما عاد إلي السلطة حتي بشبه انقلاب عسكري سنة‮ ‬1958‮ ‬أسقط به الجمهورية الفرنسية الرابعة سنة‮ ‬1958‮ ‬وأقام الجمهورية الخامسة‮.

أي أنه صاحب دور،‮ ‬ودور مشهور‮!!

بل إنه في بلد ديمقراطي عريق مثل‮ "‬إنجلترا‮"‬،‮ ‬حدث سنة‮ ‬1975‮ ‬أن فقدت المؤسسة العسكرية والأمنية ثقتها في رئيس الوزراء المنتخب‮ "‬هارولد ويلسون‮"‬،‮ ‬بل وشكَّت في أنه شيوعي مدسوس علي حزب العمال البريطاني،‮ ‬وبصرف النظر عن أية اعتبارات فإن عناصر من القوات المسلحة،‮ ‬ومعها عناصر من المخابرات العسكرية‮ - ‬وصلت إلي رئيس هيئة أركان الحرب الإمبراطورية وقتها اللورد‮ "‬لويس مونتباتن‮"‬،‮ ‬وأبلغته برأيها في سياسات رئيس الوزراء،‮ ‬راجية إشعار الملكة‮ "‬أليزابيث‮"‬،‮ ‬وكان‮ "‬مونتباتن‮" ‬هو ابن عم الأمير‮ "‬فيليب‮" ‬زوج الملكة‮ "‬أليزابيث‮"‬،‮ ‬ونحن لا نعرف كل التفاصيل،‮ ‬ولا نعرف كيف تصرفت ملكة بريطانيا وهي لا تملك دستوريا‮ ‬غير حق‮ "‬النصيحة أو القبول‮" ‬لرئيس وزرائها،‮ ‬ولكننا نعرف أنه في ظرف شهور كان‮ "‬هارولد ويلسون‮" ‬قد استقال من منصبه لصالح نائبه‮ "‬چيمس كالاهان‮"‬،‮ ‬وكانت مسببات استقالة‮ "‬ويلسون‮" ‬هي تقدُّم سنه‮ - ‬فقد قارب الستين‮- ‬والمفارقة أن نائبه الذي خلفه‮ "‬كالاهان‮" ‬كان أكبر منه بسنتين‮!!

أي أن‮ "‬العسكر‮" ‬لهم دور،‮ ‬مؤسسات وفُرادي،‮ ‬ولكن هذا الدور يظهر في بداية تأسيس الدولة،‮ ‬ويبقي في الظل أو يبرز عند تعرضها للتهديد،‮ ‬سواء كان الخطر سلاح‮ ‬غزو من خارج الحدود أو مخافة انهيار من داخلها‮!!

وإذن صحيح أن‮ "‬العسكر لا يحكمون‮"‬،‮ ‬فليس ذلك دورهم‮.

ولكن الصحيح أيضا أن‮ "‬العسكر‮" ‬لا يخرجون من صورة العمل الوطني،‮ ‬والمدهش أن الشعب المصري بحسه التاريخي أدرك دائما هذه الحقيقة‮.


دعني أنتقل إلي دور العسكر في مصر بملاحظة جانبية‮.

فهناك من يتصورون أن دخول العسكر ساحة السياسة المصرية لم يقع إلا بعد‮ ‬23‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬وذلك يحتاج إلي مراجعة‮.

قبل سنة‮ ‬1952‮ ‬كان للعسكر دور،‮ ‬ومن سوء الحظ أنهم كانوا عسكر بريطانيا،‮ ‬ننسي أنه في العلاقات السياسية مع بريطانيا،‮ ‬حتي بعد ذلك النوع من الاستقلال بعد تصريح‮ ‬28‮ ‬فبراير‮ ‬1922‮ ‬فإن العسكر البريطانيين كان لهم دور إلي جانب القرار السياسي البريطاني‮.

وقع إشكال مع حكومة‮ "‬سعد زغلول‮" ‬فتحركت الكتائب،‮ ‬واقتربت القطع البحرية من الإسكندرية،‮ ‬واستقال‮ "‬سعد زغلول‮".

مع كل تعثر للمفاوضات كان المفاوض الإنجليزي يستدعي بارجة إلي الإسكندرية،‮ ‬تعطي الإشارة،‮ ‬وتحدث الاستجابة‮!!

سنة‮ ‬1942‮ ‬طلب السفير البريطاني تعيين‮ "‬النحاس‮" (‬باشا‮) ‬رئيسا للوزراء،‮ ‬وعندما تأخَّر الملك،‮ ‬حوصر قصر عابدين بالدبابات يوم‮ ‬4‮ ‬فبراير‮ ‬1942‮ ‬وجاء‮ "‬النحاس‮" (‬باشا‮) ‬رئيسا للوزراء‮!!

سنة‮ ‬1952‮ ‬قبل الثورة أي في يناير من تلك السنة،‮ ‬وعندما ظهر تعاون القوات المصرية مع المقاومة الشعبية في منطقة قناة السويس،‮ ‬وفشلت كل المفاوضات في الوصول إلي حل،‮ ‬لجأت السياسة البريطانية إلي السلاح،‮ ‬وأخرجت كل القوي النظامية المصرية من منطقة قناة السويس،‮ ‬وقطعت الطريق ما بين قلب الوطن في الدلتا وصعيد مصر،‮ ‬وبين قوات الجيش المصري علي حدود فلسطين في قطاع‮ ‬غزة‮!!

ويمكن الرد علي ذلك بأن تلك تصرفات دولة احتلال،‮ ‬والرد صحيح،‮ ‬ولكن الدواعي جاءت بالعسكر حين دُعي‮ "‬العسكر‮" ‬في يناير‮ ‬1952‮ ‬بعد حريق القاهرة الشهير إلي النزول للشارع،‮ ‬ووقف لهب الحريق ولهب الغضب‮ - ‬ثم كان أن دُعي‮ "‬العسكر‮" ‬وحتي بعد حرب أكتوبر‮ ‬1973‮ ‬لأن الرئيس‮ "‬السادات‮" ‬استدعي الجيش ملاذا نهائيا لإنقاذ الأمن بعد مظاهرات الطعام،‮ ‬واستدعاه الرئيس‮ "‬مبارك‮" ‬لمهمة من نفس النوع في أزمة تمرد قوات الأمن المركزي‮.‬



‮ ‬هناك شعور بعدم الانصاف لدي أعضاء المجلس العسكري،‮ ‬لعدم تقدير الدور الذي قاموا به في أيام ثورة يناير‮.. ‬وهناك أيضا احساس بالإحباط،‮ ‬لتحول هتاف المتظاهرين من وحدة الجيش والشعب إلي نداء بسقوط المجلس العسكري‮.. ‬هل هم محقون في مشاعرهم،‮ ‬وإلي أي مدي هم مسئولون عن هذا التحول؟‮!

‮ ‬الأستاذ هيكل‮:‬

عندما جاءت ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير،‮ ‬اتخذ الجيش قرارا بعدم التدخل‮ ‬ضد الثورة،‮ ‬عصيانا لأوامر السلطة الرسمية،‮ ‬لأنه أدرك أن موضع الشرعية انتقل من مكان إلي مكان،‮ ‬أي من داخل‮ "‬القصر‮" ‬إلي ساحة‮ "‬الميدان‮"!!

والغريب أن الشعب المصري بحسه التاريخي راهن علي الجيش منذ اللحظة الأولي عندما اندلعت ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير‮ ‬2011‭.‬

كان الشعب كله‮ - ‬وفيه الشباب‮ - ‬ينظر بأمل إلي قواته المسلحة،‮ ‬وينتظر موقفها في خيار صعب يواجهها‮.

لو استجابت القوات لأوامر السلطة،‮ ‬فسوف تضرب الميدان‮.

ولو استجابت لدعوي الشرعية،‮ ‬فقد كان عليها أن تحمي الميدان‮.

أي أن الجيش ببساطة كان لحظتها ميزان السلامة الوطنية،‮ ‬وكان موجودا في صميم السياسة الوطنية،‮ ‬وكان الشعب يريد وجوده،‮ ‬وكان يطلب انحيازه إليه،‮ ‬باعتباره‮ - ‬الشعب‮ - ‬مصدر الشرعية،‮ ‬والتفرقة بين التواجد في سلطة الدولة،‮ ‬وبين شرعية نظام حاكم في الدولة تقدير سياسي،‮ ‬وهذا يعني بحقائق الأمور أن الجيش موجود بدور قريب من الدستور،‮ ‬يحمي شرعيته،‮ ‬بتقديره السياسي لموضع الشرعية،‮ ‬ثم يقرر أنه مع الشارع الذي يناديه،‮ ‬وليس مع القصر الذي يأمره بمقتضي تمركز السلطة الرسمية فيه‮.‬


لكن الخطأ بعد ذلك أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة وقع في خلط بين شرعية الثورة،‮ ‬وحق السلطة،‮ ‬وربما أن تجربة ثورة‮ ‬23‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬أغرت بهذا الخلط،‮ ‬رغم فارق كبير بين الحالتين في‮ ‬1952‮ ‬عنها في‮ ‬2011‭.‬

ففي حالة‮ ‬1952‮ ‬كانت البؤرة الثورية التي تحركت‮ - ‬ولأسباب تاريخية طويلة ليس هذا مجالها‮ - ‬من داخل القوات المسلحة،‮ ‬وكذلك دخلت قوة الثورة إلي سلطة الدولة،‮ ‬وعليه فإن التناقض لم يكن حادا،‮ ‬وأما في حالة سنة‮ ‬2011‮ ‬فإن الجماهير هي التي قامت بالثورة،‮ ‬وأدي المجلس الأعلي للقوات المسلحة دوره في حماية الشرعية،‮ ‬وكان لابد لقوي الثورة نفسها أن تتولي السلطة،‮ ‬لكن ذلك استحال لأن قوي الثورة لم تكن مستعدة ولا مهيأة،‮ ‬وكان ذلك ما اقتضي مرحلة انتقالية،‮ ‬خصوصا وقد تبدي أن الدولة ذاتها في أزمة‮.

وكان الواجب أن يواصل المجلس الأعلي للقوات المسلحة مهمته في حراسة الشرعية وتأمينها،‮ ‬بأن يبقي قريبا،‮ ‬ولكن دون حلول وبغير وصاية،‮ ‬بمعني أنه كان عليه دعوة قوي الشعب إلي تحديد مهام المرحلة،‮ ‬ورسم صورتها،‮ ‬ووضع خريطة طريق لإعادة بنائها،‮ ‬وأما‮ ‬غير ذلك فخارج اختصاصه‮.

وربما أنه من هذه الضرورة العملية فإن كثيرين حاولوا المشاركة في التفكير العام،‮ ‬وتقدَّموا باقتراحات رأوها صوابا،‮ ‬ومثلا فقد تقدَّمْت‮ - ‬من جانبي‮ - ‬مثلا بفكرة‮ "‬مجلس أمناء للدولة والدستور‮" ‬جسرا علي المرحلة الانتقالية،‮ ‬وكنت قد طرحتها أولا قبل سقوط‮ "‬مبارك‮" ‬بأكثر من عام‮ - ‬ومثلا تقدَّم رجل مثل الدكتور‮ "‬البرادعي‮" ‬بفكرة مجلس رئاسي مؤقت،‮ ‬وتقدَّم‮ ‬غيرنا بأفكار كثيرة،‮ ‬لكن المجلس الأعلي للقوات المسلحة تصرَّف،‮ ‬معتبرا أنه المُكَلَّف بالمسئولية،‮ ‬وليس صاحب دور محدد فيها‮.

وكان مسلسل الأخطاء مستمرا‮ - ‬ابتداءً‮ ‬من الاستفتاء علي ست مواد من الدستور القديم،‮ ‬الذي أسقط‮ ‬غداة الاستفتاء،‮ ‬ليحل محله إعلان دستوري مرتبك ومتناقض‮ - ‬ثم انتخابات بغير أن يسبقها دستور‮ - ‬والآن إلي رئيس بغير دستور،‮ ‬وإلي دستور يُكتب علي عجل،‮ ‬وكأنه مقال في جريدة،‮ ‬لأن الكل يحاول تفادي الاحتقان بالهرب إلي الأمام‮!!‬،‮ ‬وبحرق المراحل وليس إنضاجها،‮ ‬بما فيها مرحلة الانتقال عن فهم خاطئ لطبيعتها،‮ ‬وتصور أنها لحظة تسليم وتسلُّم،‮ ‬وليست لحظة تأسيس وترتيب للمستقبل‮!!

وفي الحقيقة فإن كل سيناريوهات الهرب إلي الأمام كارثية‮!! - ‬تفاقم الأزمة،‮ ‬ولا تعالجها‮.

والحال أن مصر في هذه اللحظة تعيش حالة استعصاء متوتر بين القوي‮.

فليست هناك قوة واحدة تقدر منفردة علي تحقيق تصورها للمستقبل،‮ ‬والدولة مكشوفة،‮ ‬والمتسابقون‮ ‬غير مستعدين للمراجعة،‮ ‬لأن كل طرف منهم يتصور أن اللحظة فرصته للسلطة‮.

المجلس الأعلي للقوات المسلحة مُحبَطْ،‮ ‬لكنه يتصور‮ - ‬والشباب‮ ‬غاضب ولكنه يتصور‮ - ‬والقوي السياسية وأولها الإخوان المسلمين حائرة،‮ ‬لكنها مع ذلك تتصور‮!!

والكل فيما أظن‮ - ‬ولست أعرف لماذا‮ - ‬يستدعون إلي ذاكرتي بيت شعر لـ‮ "‬إيليا أبو ماضي‮" ‬يقول فيه‮:‬
إني أراك كفارس تحت الغبار
‮                   ‬لا يستطيع الانتصار ولا يطيق الانكسار

وخشيتي‮ ‬إذا استمرت الأمور علي هذا النحو من الهرب إلي الأمام،‮ ‬أنه لن يكون من بين الأطراف علي الساحة طرف قادر علي الانتصار،‮ ‬وأن الدولة المصرية ذاتها سوف تكون هي المعرضة للانكسار‮!!‬


مشكلة المشاكل وهذا ما لا نراه أحيانا بوضوح‮ - ‬حتي وإن كان همه ثقيلا‮ - ‬أن الحياة السياسية المصرية كلها وبأكملها محصورة أو مُحاصَرة داخل مربع حديدي،‮ ‬كأنه طوق محيط بها،‮ ‬وهو من صنعها،‮ ‬من قبولها،‮ ‬وسكوتها طويلا بالصبر علي الوهم‮.

خذ من فضلك ورقة بيضاء وارسم مربعا من أربعة أضلاع،‮ ‬ولا تنسي لحظة أننا نحن من رسمنا هذه الأضلاع طوال ثلاثين سنة وأكثر‮!!

1‮   ‬ارسم خطا في أعلي المربع‮ - ‬أنه كان برضانا أن الولايات‮ ‬المتحدة‮ ‬وحدها هي من يستطيع مساعدتنا‮ - ‬ومعني ذلك أنه‮ "‬الكونجرس‮" ‬بالمعونة،‮ ‬و"البنتاجون‮" ‬الأمريكي بالسلاح،‮ ‬والتعاون مع السياسة الأمريكية في المنطقة ظاهرة وخفية،‮ ‬وذلك كله يجعل الآخرين قادرين علي تطويعنا،‮ ‬أو علي الأقل محاولة التطويع‮ - ‬أي أننا وضعنا سقفا علي حريتنا‮ - ‬وهذا هو الخط الأول في المربع،‮ ‬وهو مزعج‮!!

2‮ ‬‮   ‬وارسم علي الخط الأسفل من المربع‮ - ‬موافقتنا علي أنها‮ ‬‮"‬آخر الحروب‮" - ‬ومعني ذلك قبولنا بنزع سلاحنا،‮ ‬أو علي الأقل تحديده في إطار ما يمكن أن تقدمه أو تحجبه الولايات المتحدة الأمريكية‮ - ‬وبِعِلم وموافقة إسرائيل،‮ ‬وهذا هو الخط الثاني،‮ ‬وهو لا يقل إزعاجا‮!!

3‮ ‬‮  ‬وارسم علي اليمين خطا ضع عليه ما تصورناه عن سياسة مصر أولا‮ ‬‮- ‬ومعناها مصر وحدها في عُزلة عن شعوب أمتها العربية،‮ ‬حتي مع وجود صلات بينها وبين بعض الملوك والشيوخ،‮ ‬وسماسرة مجمع البترول،‮ ‬وتجارة السلاح،‮ ‬ونشاط المخابرات،‮ ‬وذلك خطر‮.

4‮   ‬وأخيرا ضع علي الخط الأيسر من أضلاع المربع خرافة إمكانية‮ ‬ظهور رأسماليين بدون أصول حقيقية،‮ ‬حتي إذا كانت الأصول فكرة جديدة أو اختراعا جديدا علي طريقة‮ "‬بيل جيتس‮"‬،‮ ‬وفي عصر تضافرت فيه مشاكل التنمية الحقيقية‮ - ‬مع قصور اقتصاد السوق‮ - ‬مع نظام مالي عالمي مفتوح‮ - ‬فقد استفحل وهم الرأسمالية دون تراكم رأسمالي،‮ ‬وفي الواقع فإن ذلك أصبح معناه التصرف في الموجود في البلد فعلا سواء بالخصخصة العشوائية،‮ ‬وبتوزيع الأراضي بالكيلومترات،‮ ‬واستباحة المعونات وغيرها،‮ ‬وكله بسطوة السلطة أيضا‮!!

وهذه رأسمالية في عمومها لا تخاطر ولا تضيف،‮ ‬ولكن تستولي وتتقاسم‮!! ‬الولايات المتحدة وحدها

العمل الوطني بكل أطيافه‮: ‬من كتل الجماهير‮ - ‬إلي الشباب‮ - ‬إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة‮ - ‬إلي القوي السياسية الفعلية‮.. ‬إضافة إلي كل موارد العمل الوطني السياسي الإستراتيجي‮: ‬الاقتصادي‮ - ‬الاجتماعي‮ - ‬العسكري‮ - ‬الأمني

آخر الحروب مصر أولا مصر وحدها رأسمالية دون رأسمال


قُلْ‮ ‬لي كيف تخرج من هذا المربع الحديدي‮ - ‬وإلي أين تذهب؟‮!!

وماذا يجديك أن تهرب إلي الأمام،‮ ‬أو تشرد علي هذه الناحية أو تلك؟‮!!

ويهتف بعضنا بأنه‮ "‬يسقط يسقط حكم العسكر‮" - ‬ولا أحد يريد أو يطلب أن يحكم العسكر‮... ‬ولكن خروجهم شيء آخر‮... ‬وإذا خرجوا،‮ ‬فمن يقوم بالدور المطلوب في حماية الدولة‮...  ‬حماية وجودها وكيانها‮.

وتتوتر الأعصاب،‮ ‬وتنفتح الثغرات،‮ ‬وتنفذ الأهواء،‮ ‬ثم تتسبب مباراة كرة قدم في مذابح تبدأ بين أنصار ناديين،‮ ‬ثم تنتهي بحِصار وزارة الداخلية ومحاولة اقتحامها،‮ ‬وهو عدوان خطير علي أمنها الوطني،‮ ‬ثم يُقال إن الحل هو انتخاب الرئيس قبل الدستور‮- ‬كما قلنا سابقا بالانتخابات النيابية قبل الدستور‮!!‬،‮ ‬هو إذا استمرار لمنهج الهرب إلي الأمام‮.

كل هذا وهناك موعد مقرر للاصطدام مع الحقيقة الاقتصادية في البلد‮!!

كنا من الناحية الاقتصادية سائرين من قبل ثورة يناير إلي طريق اقتصادي مسدود،‮ ‬لأن الاقتصاد علي طريقة بيوت توظيف الأموال وصل إلي نهايته‮.

لكن الطريق المسدود أضيفت إليه‮ - ‬بالتخبط في إدارة مرحلة الانتقال‮ - ‬ألغاما متفجرة حول الطريق المسدود،‮ ‬فقد زادت حِدة الأزمة لأسباب عديدة تعرضنا لها من قبل،‮ ‬وأهمها باختصار تباطؤ السياحة،‮ ‬وتعثر الاستثمار،‮ ‬وهروب الأموال،‮ ‬والابتزاز عن طريق المعونات والمساعدات‮.

قضبان حديد مستجدة تعزز قضبانا سبقتها وتصنع قفصا من حديد،‮ ‬وكلنا داخله،‮ ‬والكل لا يعرف أنه مُحاصَر من الخارج،‮ ‬متزاحم في الداخل يتعثر ويتصادم ويتزاحم ويلف حول نفسه،‮ ‬كأنه‮ "‬الرقص علي البارود‮" ‬علي حد تعبير كاتب فرنسي شهير هو‮ "‬أندريه موروا‮" - ‬في وصف أحوال فرنسا أمام عاصفة الحرب العالمية الثانية‮!!

نحن أيضا هذه اللحظة وفي وسط قفص حديدي نرقص علي البارود،‮ ‬وربما لأننا لسنا خبراء في الرقص مثل الفرنسيين،‮ ‬فقد أقمنا‮ "‬حفلات زار‮"‬،‮ ‬وفي هذه الحفلات وسط النار،‮ ‬فإن الكل يصرخ،‮ ‬والكل يدور في مكانه،‮ ‬والكل يدق علي الدفوف،‮ ‬والكل يترنح‮.. ‬ولكن علي البارود‮!!

مجلس عسكري يرتجل‮ - ‬وأحزاب سياسية قديمة وجديدة تتصادم وتقع علي الأرض‮ - ‬وشباب‮ ‬غاضب لا يعرف أين يذهب،‮ ‬لكنه يصيح وينادي في البرية‮ (‬كما يقولون‮) - ‬وجماعات ساخطة لا تعرف ماذا تريد،‮ ‬وأبسط تعبير عن السخط قذف حجر،‮ ‬أو إشعال عود ثقاب،‮ ‬ثم تندلع النار في الميادين والشوارع،‮ ‬ويشتد لهيبها طول الليل علي شاشات الفضائيات وحتي الفجر‮!!

لا أعرف الكثير عن‮ "‬حفلات الزار‮"‬،‮ ‬ولكني أظنهم فيها يستخرجون العفاريت لكي يصرفوها بعد ذلك،‮ ‬والعفاريت كثيرة في ظروفنا،‮ ‬فهناك عفاريت أمريكية،‮ ‬وعفاريت إسرائيلية،‮ ‬فليس من الطبيعي ولا من المعقول أن يحدث في مصر ما يحدث فيها الآن،‮ ‬ثم نتصور أن مصر مُحَصَّنة ضد الطامعين والمتربصين من الجن والإنس،‮ ‬مع ملاحظة أن العفاريت حاضرة بشدة في الأساطير العربية‮!!

ومن السهل أن تستخرج وتستحضر العفاريت،‮ ‬ولكن كيف السبيل إلي صرفها؟‮!!‬


‮ ‬ما الذي يصح في هذه اللحظة،‮ ‬أو يتعين‮ ‬القيام به للخروج من القفص الحديدي،‮ ‬والفكاك من خطر‮ »‬الرقص علي البارود‮« ‬الذي أشرت إليه؟‮!

‮ ‬الأستاذ هيكل‮:‬

دعني أولا أقول لك رأيي فيما لا يصح هذه اللحظة ولا ينفع‮.

‮ ‬لا يصح ولا ينفع أن تقول لي شيئا عن شرعية مقبولة بلا منازعة لأحد في معادلة السياسة المصرية‮ ‬هذه اللحظة،‮ ‬هناك للأطراف جميعا بقايا شرعية أو مقدمات لم تتأكد بعد أهليتها،‮ ‬وذلك ما نستطيع أن نعثر عليه‮.

‮ ‬لا تقل لي شرعية المجلس العسكري،‮ ‬فهذه الشرعية من الأصل دور محدد ليس له من الأساس‮ ‬حق حكم ولا حق وصاية،‮ ‬وإنما له دور‮... ‬له ضرورات هذا الدور،‮ ‬وعليه واجبه‮.

ومن سوء الحظ أن المجلس العسكري أضاع من أرصدته ما لم تكن هناك ضرورة لضياعه،‮ ‬ولكنها الطريقة التي أديرت بها المرحلة الانتقالية‮.

ومع ذلك فهناك بالتأكيد بقية شرعية،‮ ‬ومن الضروري المحافظة علي ما تبقي منها،‮ ‬لأن ذلك لازم للدور المرجو والمطلوب للأمن والحماية‮.

‮ ‬لا يصح ولا ينفع أن تحدثني عن شرعية كاملة لمجلس الشعب الجديد،‮ ‬لسبب بسيط وهو أن‮ ‬انتخابات ذلك المجلس تمت دون أساس دستوري شرعي توافقت عليه قوي الأمة‮.

لكن انتخابه أيضا،‮ ‬وبالطريقة الحرة التي جرت به لا يمكن اعتباره شيئا لا قيمة له‮.

وظني أن هذا المجلس جدار شرعي يُسّتَنَد إليه‮ -‬لكنه يصعب عليَّ‮ ‬اعتباره بناءً‮ ‬كاملاً‮ ‬مستقراً‮ ‬بشرعية كاملة،‮ ‬وأما قيامه بغير دستور متوافق عليه من كل القوي‮ - ‬إذن مشروعيته قانونية مقبولة ومحترمة،‮ ‬ولكن ليس شرعية وضع نهائي بالرضا الطوعي والقبول الكامل من كل قوي الوطن‮.

‮ ‬لا يصح ولا ينفع أن تحدثني عن شرعية الميدان،‮ ‬لأن شرعية الميدان تحتاج إلي فهم أعمق،‮ ‬لأن‮ ‬الميدان مكان،‮ ‬والمكان لا يكون مصدرا للشرعية،‮ ‬لسبب أساسي وهو أن الميدان حضور متغير بطبيعة المكان في حد ذاتها‮ - ‬ولم يقل أحد مثلا أن سجن‮ "‬الباستيل‮" ‬كان مصدرا للشرعية،‮ ‬فقد سقط وكان سقوطه إيذانا بنجاح الثورة الفرنسية،‮ ‬لكن ذلك لا يجعل قلعته مصدرا للشرعية‮ - ‬ولم يقل أحد أن ميدان الثورة الذي نُصبت فيه المقاصل،‮ ‬والذي أصبح فيما بعد ميدان الوفاق‮ "‬الكونكورد‮" ‬في باريس مصدرا للشرعية،‮ ‬المكان يصلح أن يكون رمزا،‮ ‬ولكنه لا يصلح أن يكون مصدرا‮!!

والقادرين من الحضور في المكان وفي زمنه يستطيعون التحوُّل إلي قوي سياسية فاعلة ومؤثرة،‮ ‬لكن تنظيماتهم حتي حالة قوتها تنتمي إلي عالم السياسة،‮ ‬ولا تتحول إلي مصدر شرعية‮!!

من كان له شرعية في ميدان التحرير هو الجماهير في قلبه أيام الثورة،‮ ‬ومع انطلاق شرارة الثورة من الميدان وانتشارها في كل أرجاء مصر،‮ ‬فإن الميدان تحوَّل إلي مكان له قيمة رمزية بدأت منه الثورة،‮ ‬واتسعت،‮ ‬وانتشرت‮... ‬ثورة شعب،‮ ‬وهنا فإن المعني الرمزي لا يضيع،‮ ‬وقيمته تظل محفوظة‮.

وعندما يزدحم الميدان كما نري الآن في الأيام العادية بعربات اليد،‮ ‬وبالحصير علي الأرض،‮ ‬وبالخيام الملونة،‮ ‬وبالباعة الجائلين،‮ ‬فتلك كلها مشاهد سوق،‮ ‬ولكنها ليست مواقع شرعية‮.

والسوق في ميدان رمزي قد يتحول بعض الأيام إلي كرنڤال،‮ ‬وهذا مُعتاد‮.

والكرنڤالات تحدث في ساحات الڤاتيكان في روما،‮ ‬وأمام كنيسة القديس‮ "‬سان ستيفان‮" ‬في ڤيينا،‮ ‬وحول ميدان‮ "‬الطرف الأغر‮"‬،‮ ‬تحت النصب المرتفع شاهقا نحو السماء لـ‮ "‬نلسون‮" ‬قاهر‮ "‬نابليون‮" ‬في البحر‮... ‬كل تلك الساحات رموز تاريخية تعني الكثير لأهلها،‮ ‬لكنها ليست مصدرا لأي شرعية سياسية‮.

‮ ‬لا يصح ولا ينفع أن تسير الأمور كما تسير الآن،‮ ‬ثم تعود وتؤكد لي أننا بدأنا علي طريق لابد لنا أن نجري‮ ‬عليه إلي النهاية،‮ ‬ولا سبيل إلي مراجعة‮.

ذلك لا يصح لا في أحوال الأفراد،‮ ‬ومن باب أولي لا يصح في مصائر شعوب،‮ ‬خصوصا في لحظات تقرير المصير عند مرحلة تصور وحساب الأساس،‮ ‬وتصميم وتقدير مواد وتكاليف البناء‮.

بمعني أن كل طرف في مثل هذه المرحلة مُطالب بمراجعة خُطاه في أي لحظة،‮ ‬شرط أن يكون صادقا وواضحا مع نفسه ومع الآخرين،‮ ‬وشرط أن لا يكون هدفه ذاتيا،‮ ‬وشرط أن يكون قادرا علي البرهان الحقيقي،‮ ‬فلا أحد يقول لي أننا نستطيع مثلا أن نمشي علي قضبان سكة حديد لم تكتمل،‮ ‬لم تصل إلي‮ ‬غايتها،‮ ‬ثم يُقال أننا لا نستطيع الوقوف،‮ ‬ولا نستطيع التراجع،‮ ‬وإنما علينا الحركة وفق ما كان مقدرا من أول خطوة وإلي النهاية،‮ ‬أي أن القطار يجب أن يواصل سيره،‮ ‬حتي وإن لم تكن هناك قضبان،‮ ‬ثم إنه ليس مهما ما يجري بعد ذلك،‮ ‬المهم أن لا نتوقف،‮ ‬وهذا منطق‮ ‬غريب‮!!

لا ينفع ولا يصح أن يتواصل الهرب إلي الأمام،‮ ‬بمعني أن تشتد الضغوط علي المجلس الأعلي‮ ‬للقوات المسلحة،‮ ‬ويكون الشعار بضرورة خروج العسكر من الساحة،‮ ‬وتسليم السلطة فورا،‮ ‬وإنما علينا أن نحدد ونفرز ونتفق علي أن لدينا‮ "‬لا‮" ‬واضحة وقاطعة علي حكم‮ "‬العسكر‮"‬،‮ ‬لكن هذه الـ‮ "‬لا‮" ‬المانعة لحكم‮ "‬العسكر‮" ‬لا تستوجب خروج‮ ‬‮"‬العسكر‮" ‬من ساحة العمل الوطني‮.

لا يصح ولا ينفع أن يكون مصير المزاج الوطني،‮ ‬وفي‮ ‬بعض الأحيان قرار السياسة وتوجهاتها‮ - ‬مشدودا‮ ‬بسلك إلي حوارات فضائية،‮ ‬فيها كثير مما هو مهم ونافع،‮ ‬لكن علينا وضعه في سياقه وفي حدوده أيضا‮ - ‬أكاد أحس في بعض الأحيان أن الأسئلة والإجابات علي مسائل كبري موصولة بهذا السلك‮ - ‬والاستجابة للرأي العام مطلوبة في كل مجتمع،‮ ‬لكن الخلط بين الرأي العام والرأي الخاص يحتاج إلي بعض الفرز،‮ ‬كما أن القرارات لا يصح أن تتخذ بذبذبات موجات الإرسال،‮ ‬أو بترددات تزحم الفضاء‮!!‬

لابد أن نحتشد ضد أزمات سوف تنقض علينا خلال أسابيع في مناخ داخلي إقليمي وأهم المخاطر

ليس هناك ما يدعو الأطراف إلي الارتطام ببعضهم بعضا
وليس هناك ما يدعو الجميع والبلد معهم إلي الارتطام بالقدر

المطلوب إخلاء الفضاء الاستراتيجي لسيطرة القوة الإسرائيلية
وتصفية القضية الفلسطينية بصورة كاملة ونهائية

ضرب إيران الهدف الاستراتيجي المطروح في المنطقة الآن

اقرأوا كتاب‮ »‬برنارد هنري ليڤي‮« ‬عن الثورة الليبية
هو يقول بصراحة انه صانع ما جري في ليبيا‮.‬

نسمع الآن مطالبات بأن يعود الجيش إلي مهامه علي الحدود
ولا يسأل أحد أي حدود بالضبط؟‮!‬

‮ ‬لكن المجلس العسكري يتعرض إلي ضغوط‮ ‬من الشارع،‮ ‬تطالبه إما بالرحيل فورا أو علي الأقل تقليص المرحلة الانتقالية،‮ ‬وبالفعل جري الإعلان عن تبكير انتخابات مثلما اقترح المجلس الاستشاري،‮ ‬وأعلن عن فتح باب الترشح للرئاسة يوم ‮٥١ ‬مارس المقبل‮.. ‬أي بعد شهر تقريبا‮.‬

 ‬الأستاذ هيكل‮:‬

إنك تفضلت وأبلغتني علي التليفون ما علمنا به مؤكدا بعد ذلك عن توصية من المجلس الاستشاري بتحديد مواعيد محددة للانتخابات الرئاسية،‮ ‬موعد لفتح باب الترشيح،‮ ‬وموعد بدء الحملات الانتخابية،‮ ‬وموعد لإجراء الانتخابات إلي آخره‮.. ‬ومع احترامي لكل التوصيات،‮ ‬وآمالي بأن تنجح،‮ ‬فإن خشيتي من الارتجال بالتسرع في الإجراءات،‮ ‬قد تكون وراءها هموما ثقيلة‮.

لا تنتهي مراحل الانتقال بالارتجال‮.‬
ولا تتقرر المصائر تحت الضغوط‮.‬
ولا يتحقق التقدم بالهرب إلي أمام‮.‬
ولا تنفتح الطرق إلي المستقبل بالشكوك والريب،‮ ‬ومع أني أتمني أن ينجح هذا الذي أعلنه المجلس الاستشاري واعتمده المجلس العسكري،‮ ‬لكني لا أظنه عين الصواب،‮ ‬ولا عين الحكمة،‮ ‬وإنما هو اندفاعة أخري بالهرب إلي المجهول‮!!

صميم المشكلة أن هناك أزمة مع المجلس الأعلي للقوات‮ ‬المسلحة،‮ ‬وذلك ما يدفعنا إلي تسريع الإجراءات‮.

وأزمة الثقة مع المجلس العسكري موجودة،‮ ‬ولكن سؤالي هو إذا ما كان الهرب إلي الأمام هو الحل‮!!

فعلناها من قبل بانتخابات نيابية قبل الدستور،‮ ‬ثم أدركنا الخطأ ومشينا‮!!

ويتكرر الخطأ الآن برئيس جديد،‮ ‬قبل دستور محترم،‮ ‬ثم نمشي‮!!

شعوري أن مثل ذلك لا يصح ولا ينفع،‮ ‬لكن دعائي إلي الله أن تقع المعجزة،‮ ‬وأن يصح وينفع‮!!

كل ذلك لأن العسكر يجب أن يخرجوا اليوم وليس‮ ‬غدا‮!!

أريد أن أقول لك بصراحة قد تضايق بعض الناس،‮ ‬أن شعار عودة الجيش إلي ثكناته مقولة تنتمي إلي القرن التاسع عشر،‮ ‬يوم كان القيصر النمساوي أو القيصر الروسي مثلا يستدعي الحاميات العسكرية للمدن الغاضبة مثل‮ "‬ڤيينا‮" ‬أو‮ "‬براغ‮" ‬أو مثل‮ "‬موسكو‮" ‬و"كييف‮"‬،‮ ‬ويأمرها بالسيطرة علي المظاهرات،‮ ‬ويكون مطلب الناس لكي يطمئنوا أن تعود حاميات الجيش إلي ثكناتها أولا‮.

ونسمع الآن كما نسمع مطالبات بأن يعود الجيش إلي مهامه علي الحدود ولا يسأل أحد‮: ‬أي حدود بالضبط؟‮! - ‬لا ندرك أن الحدود لم تعد تلك الخطوط القديمة المرسومة علي الخرائط‮.

أخطر من ذلك فإننا لا نسأل أنفسنا بالضبط عن حدودنا السياسية‮ - ‬وما هو مجال تواجدنا عمليا عندها؟‮!!

كذلك ننسي مرات أن الأمن الوطني في المفهوم الحديث للأمن الوطني لم يعد مجرد معسكرات تتحشد فيها الجيوش داخل نقط حصينة من الأسمنت علي مواقع نائية‮.

فالاقتصاد الآن،‮ ‬ومعه التوازن الاجتماعي،‮ ‬ومعه التعليم،‮ ‬ومعه الصحة،‮ ‬ومعه المعرفة،‮ ‬ومعه الإنتاج في كل مجال،‮ ‬ومعه الثقافة،‮ ‬ومعه السلاح‮ - ‬جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي‮.

ننسي‮ - ‬حتي في الشكل العملي للأشياء‮ - ‬أن الوسيلة الأخطر للاتصال في العالم الآن وهي الإنترنت نشأت في أحضان الجيش الأمريكي،‮ ‬ولاتزال حاسباتها الإلكترونية الكبري قريبة من إشراف‮ "‬البنتاجون‮" ‬وركيزتها عشرة مواقع هائلة في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وكلها‮ ‬غير بعيدة عن‮ "‬البنتاجون‮"!!

وأن نقول لا يحكم العسكر‮!! - ‬فالإجابة نعم،‮ ‬فهذا ليس اختصاصهم في منظومة الأمن القومي،‮ ‬لكن خروجهم إلي بعيد عن العمل الوطني السياسي في مجمله‮ - ‬نوع من الاستهتار‮!!

‮ ‬يبدو مما نسمع ونطالع أن وضع الدستور‮ ‬لن يمثل مشكلة أمام واضعيه‮. ‬البعض يتحدث عن وجود فصول جاهزة،‮ ‬ويؤكد أنه يمكن الانتهاء منه في‮ ‬غضون شهرين من انعقاد الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداده وصياغته؟ هل أمر الدستور في رأيك يؤخذ بهذه البساطة؟‮!

‮ ‬الأستاذ هيكل‮:‬

لاينفع ولا يصح أن يقول لي أحد أن الدستور جاهز،‮ ‬وأن المطلوب مجرد تعديل في بعض فصول‮ ‬دستور سنة‮ ‬1971‮ ‬ما يلي الفصل الخامس،‮ ‬لأن ما قبله مُتَّفق عليه،‮ ‬أو لأنه استعارة من دساتير أخري موجودة في العالم‮.

نتصور أن الدساتير نصوص محفورة علي الحجر،‮ ‬تصون الحقوق المعروفة والمتفق عليها،‮ ‬وننسي أن العالم الحديث أتي إلينا بمستجدات لم تكن في ظنوننا،‮ ‬لأن الدساتير ليست مجرد صياغات،‮ ‬وإنما تعبير عن حقائق موجودة أو مطلوبة مُتفق عليها،‮ ‬أو وهو الأهم حقائق مستجدة كان بعضها مما استوجبته الثورة‮.

إنني قرأت أخيرا‮ - ‬مرة ثالثة أو رابعة‮ - ‬محاضر لجنة إقرار المبادئ الدستورية التي وضعت دستور سنة‮ ‬1923،‮ ‬وهو دستور شهير في حياتنا‮.

لقد استمرت مناقشات الاتفاق علي مبادئ الدستور شهورا،‮ ‬وفتحت مجالات واسعة،‮ ‬وأثارت مناقشات في قضايا حيوية متصلة بزمانها وعصرها،‮ ‬ولم تكتف بمجرد الاستشهاد بفلاسفة الدساتير من‮ "‬مونتسكيو‮" ‬إلي‮ "‬هوبز‮"‬،‮ ‬وحتي إلي‮ "‬عبد العزيز فهمي‮" (‬باشا‮) ‬و"حسين رشدي‮" (‬باشا‮) ‬وهو رئيس لجنة وضع مبادئ دستور‮ ‬1923‭.‬

هل يمكن أن تتصور مثلا أن لجنة وضع مبادئ دستور سنة‮ ‬1923‮ ‬ملأت صفحات بعد صفحات في مناقشة نصوص تكفل أن لا يتسرب إلي مجلس النواب الجديد أيا من العمال والفلاحين،‮ ‬لأنه لا مصلحة لهم في الوطن،‮ ‬لأن مصلحة الوطن في عُهدة الأغنياء والملاّك وبعيدا عن مسئولية الفقراء والعمال،‮ ‬ولاحظ بعد ذلك أن دستورا آخر جاء فيما بعد،‮ ‬وأقر أن لهم‮ ‬50٪‮ ‬من مقاعد مجلس الشعب باعتبارهم الأغلبية الطبيعية بين المواطنين،‮ ‬الأزمنة تتغير وكذلك مجموعات القيم،‮ ‬ومعها لابد أن تتوافق رؤي العقد الاجتماعي‮.

ونحن الآن في صدد مراجعة ذلك وغيره،‮ ‬ولابد من قواعد تتسق‮.

‮ ‬خذ مثلا قضية الهوية‮ - ‬وأسأل هل مازلنا جزءًا من الأمة العربية،‮ ‬وهل هي الجغرافيا والطبيعة والتاريخ كما أري ويري‮ ‬غيري،‮ ‬أو أنها الهيروغليفية وكتاب الموتي كما يري آخرون‮!!.

إنني واحد من المبهورين بالهيروغليفية،‮ ‬وبكتاب الموتي،‮ ‬لكن الماضي قضية،‮ ‬والتاريخ قضية أخري‮ - ‬الماضي معالم وآثار نقف أمامها باحترام،‮ ‬والتاريخ حياة متدفقة نعيشها ولانزال‮!!

‮ ‬ثم إننا نادينا بأنها مصر أولا وأخيرا،‮ ‬وقد مارسنا هذه السياسة بالفعل حتي جري رهن الأمن القومي بعلاقات خاصة مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل‮ - ‬إذن فكيف نكتب النصوص؟‮! - ‬كيف نكتب نص الهوية والانتماء؟‮!!

‮ ‬خذ مثلا قضية المرأة،‮ ‬وتساءل معي كيف حدث بعد الثورة،‮ ‬وفي أول مجلس منتخب أن مجلس الشعب لم تدخله المرأة إلا بعدد أصابع اليد الواحدة،‮ ‬ثم إننا أضفنا بالتعيين اثنتين أو ثلاثة،‮ ‬ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين،‮ ‬ولا يستقيم مع هذا الحال حق،‮ ‬ولا يتسق دستور‮!!

‮ ‬خذ قضية أخري،‮ ‬فقد أعطينا للمصريين في الخارج حق الانتخاب،‮ ‬وهذا سليم،‮ ‬ولكن المشكلة‮: ‬ماذا عن أبنائهم وعن أحفادهم،‮ ‬مع ملاحظة أن شرط الجنسية هو أب وأم مصريين،‮ ‬والمصريين في الخارج الآن ثمانية ملايين،‮ ‬وبعد سنوات سوف يصلون إلي أكثر من ضعف هذا العدد،‮ ‬فكيف تتحدد مشاركتهم إذا لم يتعرض لذلك دستور جديد،‮ ‬وهذه قضية لم يلتفت إليها دستور من قبل،‮ ‬لأنها قضية مستجدة‮!!

‮ ‬خذ قضية حقوق الأقباط وتذكَّر أنه في دستور سنة‮ ‬1923‮ ‬رفض الجميع حفظ حقوق تمثيلهم في المجلس بحصة مقررة بنص‮ - ‬وقد أسموها في مناقشات لجنة المبادئ الرئيسية بوصف‮ "‬كوتة‮"‬،‮ ‬ثقة من الكل في الوعي العام بحقوق وواجبات المواطنة،‮ ‬ونحن نعرف ما حدث،‮ ‬ولازلت أري بصواب عدم النص علي‮ "‬نسبة‮" ‬أو‮ "‬كوتة‮"‬،‮ ‬لكن هناك بالفعل مشكلة تمثيل لابد لها من حل في دستور جديد‮.

‮ ‬خذ نظام رئاسة الدولة،‮ ‬وهل هو برلماني أو رئاسي أو مزيج من الاثنين،‮ ‬وخذ وخذ و‮...

‮ ‬قضايا كثيرة لم تكن موجودة،‮ ‬وقضايا كثيرة اكتشفت بالتجربة،‮ ‬وأصبح من الضروري وضع حدود لها،‮ ‬وتعريف بمجالاتها‮.

حقوق الإنسان‮... ‬مؤسسات المجتمع المدني‮... ‬علاقات الخارج بالداخل‮... ‬عشرات المسائل المستجدة علي الفكر السياسي في العالم،‮ ‬وكلها لابد من تعرض لها،‮ ‬وإشارة إليها في دستور جديد‮.

والدساتير لكي تُحتَرم لابد أن تعبر عن حقائق واقع ومستقبل،‮ ‬ثم تجيء الصياغة بواسطة خبراء في الصياغة،‮ ‬لكن خبراء الصياغة لا يضعون الحقائق،‮ ‬وإنما يكتبون النصوص المعبرة عنها‮!!‬


‮ ‬ما العمل إذن يا‮ »‬أستاذ«؟‮!‬

 ‬الأستاذ هيكل‮:‬

كنت أتمني أن لا تسألني هذا السؤال‮: ‬سؤال ما العمل؟‮!!

علي أني لا أجد حرجا في الرد عليه بأن أقول لك‮: ‬لا أعرف بالتحديد‮!!

أستطيع أن أبدي رأيا،‮ ‬وأن أحلل موقفا،‮ ‬وأن أشارك في حوار قد يصل أو لا يصل إلي شيء،‮ ‬ولكني لا أستطيع أن أفتي وأتقدم بحلول‮!! - ‬من يستطيع طرح الحلول هو من يعرف الحقائق كلها،‮ ‬ومن يقدر علي التصور،‮ ‬ومن يملك المستقبل‮!!‬،‮ ‬ولو قلت‮ ‬غير ذلك ما احترمت نفسي،‮ ‬ولا مجلسي أمامك،‮ ‬وعلي أي حال فمن قبلنا جميعا أطلق ذلك الفقيه الأعظم‮ "‬أبو حنيفة‮" ‬مأثورته الشهيرة‮: "‬من قال لا أدري فقد أفتي‮" - ‬بالفعل لا أعرف،‮ ‬وليس في ذلك ما ألوم نفسي عليه لأسباب كثيرة،‮ ‬منها أن أصحاب العصر ومن يعرفون حقائقه هم الأولي بالفتوي فيه قبل‮ ‬غيرهم،‮ ‬ثم إن أصحاب المستقبل ومن يملكون الجسارة عليه أولي وأولي،‮ ‬وأظنك تشهد أنني قلت وكررت أنني أنتمي إلي عصر سبق،‮ ‬ثم إنني قلت وكررت أن مستقبلي ورائي،‮ ‬يعنيني أمر وطني ومستقبله،‮ ‬لكن قُصاري ما أستطيع هو أن أشارك في حوار،‮ ‬وبرأي أبديه،‮ ‬وفيه من محاذير الشيوخ أكثر مما فيه من جسارة الشباب وهم أكثر اتصالا بالمستجدات في الأفكار والوسائل،‮ ‬والحقيقة أننا قبل ثورة‮ ‬2011‮ ‬كنا نواجه أزمة عويصة،‮ ‬ثم إننا وبسبب سوء الإدارة والبُعد عن العصر،‮ ‬وجدنا الأزمة تتحول إلي نصف كارثة ونصف فضيحة‮!!

ومع الأسف فإنني ربما بحكم السن وبحكم مسافات العصر،‮ ‬أري من المحاذير أكثر مما أري من الفرص،‮ ‬لكن‮ ‬غيري بالتأكيد أجرأ وأقدر،‮ ‬مع العلم أن محاذيري سياسية مؤقتة،‮ ‬مع بقاء تفاؤلي التاريخي ثابت ومتين‮.‬


‮ ‬قلت‮: ‬قد تبدو الفرص وراء‮ ‬غيوم،‮ ‬أو أنها‮ ‬خارج مرمي البصر‮.. ‬لكن المحاذير لابد أنها تومض أمامك بأضواء وإشارات‮.. ‬كيف تراها بالتحديد،‮ ‬وما السبيل إلي توقيها؟‮!


 ‬الأستاذ هيكل‮:‬

هناك‮ ‬أسلوب منطقي للبحث عن الحلول خصوصا إذا كان الباحثون عنها لا يعرفون جوابا مسبقا،‮ ‬أو صيغة معتمدة،‮ ‬أو تجربة مماثلة‮!!

هذا الأسلوب يحاول استكشاف ما حول الموضوع،‮ ‬يحاول قدر ما يستطيع أن يحيط بحدوده،‮ ‬يحاول أن يستقرئ مواقف مماثلة له في التاريخ،‮ ‬يتذكر تجارب الآخرين ثم يعثر علي طريق اقتراب ويقترب،‮ ‬ويركز أكبر قدر من الضوء علي ما يواجهه،‮ ‬ثم يستجمع عزيمته،‮ ‬ويتحمل المسئولية‮.

هنا يكون عليه أن يتوقف من باب توخي السلامة،‮ ‬أو يطرح علي نفسه سؤالين اثنين‮:

‮- ‬ما هي مواقع المحاذير التي يصح توقيها،‮ ‬لأنها في الغالب خطرة؟‮!

‮- ‬والسؤال الثاني ماذا فعل‮ ‬غيره في مواقف مشابهة،‮ ‬أو قريبة الشبه مما هو فيه؟‮! ‬فلسنا أول أمة خاضت تجربة الانتقال من لحظة ثورة إلي مأمول فيه واقع‮!!

دعنا نستعرض معا سؤال المحاذير التي يصح توقيها‮.

‮  ‬هناك كلام مرسل عن تسليم السلطة بأسرع وقت،‮ ‬وذلك من ناحية‮ ‬المبدأ‮ - ‬مفهوم ومعقول،‮ ‬لكن لاحظ مسألة مهمة‮.‬
لمن تسلم السلطة؟‮!- ‬أقرب الحلول إلي الخواطر أن تسلم السلطة لحزب الأغلبية،‮ ‬وحزب الأغلبية هذه اللحظة هو تنظيم سياسي ولد من رحم جماعة الإخوان المسلمين ورعايتهم‮.

مجلس الشعب كما حاولت أن أشرح من قبل‮ - ‬جدار في بناء الشرعية جري إقامته بضرورات نعرفها جميعا،‮ ‬والمجلس بلا جدل له مشروعية قانونية،‮ ‬ولكن الشرعية الكاملة في البلد لا يمكن أن يرفعها‮ ‬غير دستور كامل‮... ‬بناء كامل‮... ‬علي أساس مُتَّفق عليه‮.

لا بأس بجدار ساند له قيمة،‮ ‬وهو يصد ويرد احتمالات فوضي من حيث إنه يحفظ مسئولية التشريع‮.

لكن هناك فارقا بين أن يكون المجلس جدارا شرعيا،‮ ‬وأن يكون سلطة حكم،‮ ‬ولكن الدستور والدولة قضية أكبر‮.‬
ثم إن هناك إشكاليات حقيقية‮.

وهنا إشكالية‮: ‬هل تسلم كل السلطة،‮ ‬أو تسلم بعضها فقط؟‮! - ‬ثم بأي منطق؟‮!!

هناك دواع عملية تقتضي التفكير‮.

هل تسلم سلطة وزارة الدفاع وفيها قيادة القوات المسلحة للإخوان المسلمين؟‮! - ‬وكيف والقوات المسلحة موصولة بالدستور،‮ ‬وليست بأغلبية في مجلس الشعب،‮ ‬وهذه اللحظة ليس هناك دستور‮.

هل تسلم لهم بسلطة وزارة الداخلية؟‮!- ‬وكيف،‮ ‬وهم أي الإخوان المسلمين كانوا لسنوات في عداء مع جهاز الأمن في البلد،‮ ‬خصوصا ما يسمي أو كان يسمي بـ‮ »‬النظام الخاص‮«‬،‮ ‬كما أن جهاز الأمن كان في عداء معهم‮.

هل تسلم لهم بسلطة السياسة الخارجية؟‮!- ‬وكيف،‮ ‬والأمن القومي معلق ليس فقط بالدستور،‮ ‬ولكن بممارسات تعرفت عليها وخبرتها طويلا النخب المدنية،‮ ‬ولا أظن أن الإخوان المسلمين هذه اللحظة قادرون أو مستعدون،‮ ‬ثم وبصراحة فإن الإخوان المسلمين لهم صداقات مع قوي وقيادات في الإقليم قد تكون عبئا علي الدولة المصرية،‮ ‬وهذه قضية لا أريد أن أزيد فيها‮.

هل تسلم لهم بسلطة التعليم؟‮!- ‬أي صياغة فكر وعقل المستقبل،‮ ‬وكيف في هذا الزمن وفي ظروفه؟‮!- ‬ثم أن يتم ذلك دون دستور يحدد الهويات والمرجعيات الإنسانية والفكرية‮.

أكاد أتصور أنه إذا وقع هذا المحظور فإننا سوف نستيقظ ذات يوم علي مشكلة بين الطرف الذي يتسلح بالسلطة،‮ ‬وبين أجواء ممارسة السلطة،‮ ‬بمعني أوضح‮: ‬صدام بين القوات المسلحة والإخوان‮ - ‬صدام بين البوليس والإخوان‮ - ‬أزمة في إدارة الأمن القومي‮ - ‬ثم وفي‮ ‬غيبة دستور وبسلطة للإخوان مفتوحة،‮ ‬وبغير دستور يقرر الحدود ويربط الأواصر‮ - ‬ماذا عن أقباط مصر؟‮!- ‬تلك وصفة فوضي في هواجسي،‮ ‬وهذا واحد من المحاذير‮.

‮  ‬محظور ثان هو أن مهمة الأسابيع والشهور القادمة حتي يتم وضع‮ ‬نظام دستوري كامل أكبر بكثير من طاقة رجل واحد نسلمه السلطة هذه اللحظة،‮ ‬ونطلب منه أن يتقدم ويقود في ظل أوضاع راهنة تعودت بتركيبتها الإنسانية والعملية علي فردية اتخاذ القرار بمعني أنه ليس هناك رجل واحد،‮ ‬ومجلس وزراء يشكله في حدود ما يعرف ومن لن يعرف‮ - ‬يقدر علي التصدي في نفس الوقت،‮ ‬لأمن داخلي‮ ‬غير مستقر،‮ ‬ولأحوال مالية علي الحافة،‮ ‬ولاقتصاد مثقل بالأعباء،‮ ‬ولاختلالات كبري في الأجور والأسعار،‮ ‬ولأزمات طارئة من رغيف الخبز إلي بنزين السيارات،‮ ‬ومن سياحة معطلة إلي إعلام صاخب‮!!

ولو أننا كنا أخذنا بفكرة مجلس لرئاسة‮  ‬الدولة فيه خمسة أو سبعة أعضاء‮ - ‬لكانت هناك طمأنينة أن علي القمة أو في موقع الرئاسة هناك رجال يقدرون علي بعضهم بعضا بقيادة مشتركة لعلها تستطيع إتمام مرحلة الانتقال بغير هذه الطريقة التي يسمونها في لعبة الجولف‮ »‬الموت المفاجيء‮« ‬sudden Death‮ ‬،‮ ‬أو السكتة القلبية الرياضية،‮ ‬بمعني أن لاعبا يخسر كل نقاطه المسموح له بها قبل أن تنتهي المباراة،‮ ‬وحينئذ لا يصبح من الضروري عليه مواصلتها،‮ ‬لأن نتيجتها أصبحت معروفة،‮ ‬والاستمرار فيها علي النهاية مضيعة للوقت‮.

لكننا لا نفعل ذلك‮ - ‬نجري انتخابات علي أساس مرشح واحد يفوز‮!!

والقفز بهذه الطريقة من رجل إلي رجل،‮ ‬وفي‮ ‬غيبة توافق علي نصوص،‮ ‬فإنه مرة أخري استمرار بمنطق نقل السلطة وليس نقل الدولة،‮ ‬وأكاد دون مبالغة أن أتصور بعد شهور قليلة أن الميادين سوف تزدحم بنداء أن الشعب يريد إسقاط الرئيس الجديد‮ - ‬وليس القديم فقط‮!!

وحتي إذا لم يكن السبب هو‮ "‬تلبك‮" ‬الساحة الانتخابية،‮ ‬فإن الحقيقة الأكبر أن الرواية السياسية المصرية لم تتغير،‮ ‬ولم يتغير الديكور،‮ ‬ولم يتغير المسرح،‮ ‬ولم يتغير الموضوع ولا النص،‮ ‬وفي معظم الأحيان ولا الممثلين‮!!

‮   ‬يتصل بذلك محظور آخر هو أن الظروف تقتضي دخول شباب‮ ‬قادر علي الظروف وعلي العصور،‮ ‬والحقيقة أنني لا أتصور الآن رئاسة لمصر‮ ‬يتجاوز شاغلها الخامسة والستين أو السبعين استثناء،‮ ‬وكان الشباب موجوداً‮ ‬في كل مواقع الثورة،‮ ‬بما في ذلك شباب الإخوان المسلمين لكن التجارب تعلمنا داخل الإخوان وخارج محيطهم أن الشيوخ يقدرون طول الوقت علي الإمساك بمواقع النفوذ،‮ ‬لا يتخلون عنها ببساطة،‮ ‬خصوصا وأنهم بالفعل داخلها وفي أيديهم‮ - ‬وليس في أيدي‮ ‬غيرهم‮ - ‬أدواتها ومفاتيحها‮!!

لكن السؤال المحوري هو كيف يمكن ترتيب الانتقال في‮ ‬غياب شباب يحمل روح الثورة،‮ ‬وجسارة الشباب الذي فجرها،‮ ‬مع ملاحظة أن طاقة هذا الشباب أوسع وأقوي من الجيل الذي يمكن أن تنتقل إليه السلطة،‮ ‬بهذا الذي تكمل به الآن مرحلة الانتقال،‮ ‬ثم هل نحن مستعدون فلا نري ونسمع جموعا من الشباب تعود إلي الميادين بعد شهور قليلة تطالب الرئيس الجديد بالرحيل؟‮!

‮    ‬هناك مواقيت علي الطريق خلال شهر أو شهرين،‮ ‬فهناك‮ ‬موعد‮ ‬مع حقائق الأزمة الاقتصادية،‮ ‬فقد وصلت إلي الحافة،‮ ‬رغم مرونة في المقاومة أدهشت كثيرين من المراقبين،‮ ‬فقد كانوا يتوقعون لحظة الانفجار الكبير أمس ولم يحدث،‮ ‬وتوقعوه اليوم،‮ ‬ثم بدا أنه مؤجل،‮ ‬وسمعت بنفسي من أكبر الخبراء أن مرونة الاقتصاد المصري وقدرته علي المقاومة مدهشة،‮ ‬لكن للحقائق أحكامها،‮ ‬وقد تحدثنا فيما سبق عن الحقائق الاقتصادية،‮ ‬وإذا كان الانهيار لم يحدث حتي الآن،‮ ‬وهذه معجزة،‮ ‬إلا أن المعجزات ظواهر استثنائية،‮ ‬إلهية أو رسولية،‮ ‬وزمن المعجزات تدخُّل من خارج التاريخ يصعب الحساب عليه والتخطيط في انتظاره‮!!

وأتعهد أمامك منذ الآن أنني سوف أكون أسعد الناس لو أن أحدا من مرشحي الرئاسة في الانتخابات القادمة أظهر خلال معركة الانتخابات إشارة أو دليلا يبشر بمعجزة،‮ ‬لكني بأمانة لا أظن‮!!‬


نحن‮ ‬نأخذ حتي الآن بمنهج مقاربة الأزمة في مصر بالطواف حول تخومها ومشارفها،‮ ‬وذلك جزء من منهج اقترحته عليك ووافقتني عليه حتي نتعرف ونعرف ماذا ننقي قبل أن نتقدم لنقرر ماذا نختار‮.

هناك بعض المحاذير في استكشاف الحلول الممكنة،‮ ‬مقاربة أخري وهي كيف تصرف الآخرون في مثل ظروفنا‮ - ‬كيف تصرفت الثورات؟‮!!

في التاريخ نماذج‮:‬
‮- ‬هناك مثلا تجربة الثورة الإنجليزية التي قادها‮ »‬كرومويل‮« ‬بعد الثورة علي الملك‮ »‬شارل‮« ‬وإعدامه،‮ ‬كانت هناك فترة‮  ‬انتقال ملأها‮ »‬كرومويل‮« ‬بالبرلمان،‮ ‬ولوصايته هو شخصيا علي السلطة،‮ ‬لأن الشعب البريطاني كان قد أعدم ملكا،‮ ‬لكنه لم يقم بإلغاء النظام الملكي من أساسه،‮ ‬وكذلك كان‮ »‬كرومويل‮« ‬ومعه البرلمان وصيا،‮ ‬ومضت فترة انتقال لم تصل إلي نهاية معقولة،‮ ‬لأن‮ »‬كرومويل‮« ‬نفسه توفي قبل أن يصل بها إلي نهايتها‮.

‮- ‬هناك مثلا أنه بعد الثورة الفرنسية ومراحلها المتفجرة الأولي‮ - ‬جري تشكيل مجلس القناصل من ثلاثة قناصل يتولون سلطة الدولة في مرحلة انتقالية،‮ ‬انتهت بأن قام‮ »‬نابليون بونابرت‮« ‬بإزاحة مجلس القناصل،‮ ‬وتولي هو وحدد سلطة الدولة‮.

‮- ‬هناك مثلا الثورة الروسية وعبر نجاحها فإن السلطة آلت إلي مجلس السوفيات الأعلي‮ - ‬برلمان‮ - ‬كما أن رئاسة الدولة حلت في مجلس رئاسي،‮ ‬ثلاثي في الغالب‮.

‮- ‬هناك الثورة العلمانية في تركيا،‮ ‬وبعدها فقد كان هناك رئيس تاريخي،‮ ‬لكن معه مجلس للأمن القومي فيه كما قلنا تمثيل للجيش والقضاء والجامعات‮.

‮- ‬هناك الثورة الإسلامية في إيران،‮ ‬وبعدها كان هناك رجل مثل‮ »‬الخميني‮« ‬يمثل دور مرشد النظام الثوري الإسلامي،‮ ‬لكن معه رئيس للجمهورية،‮ ‬وحوله مجالس من خبراء الدستور،‮ ‬وساسة مهمتهم تشخيص مصلحة النظام‮.

وفي هذه التجارب الثورية كلها‮ - ‬عبر التاريخ‮ - ‬لم يحدث أن كان الانتقال في سلطة الدولة العليا من رجل واحد إلي رجل واحد،‮ ‬ذلك يحدث في الانقلابات،‮ ‬لكنه لا يحدث في الثورات‮!!

 ‮  ‬هناك محاولات نراها أمامنا لسرقة الثورة العربية التي‮ ‬تطوَّع بعضهم‮ ‬وأسماها‮ "‬الربيع العربي‮"‬،‮ ‬وهي تسمية لا أجد عندي حماسة لها،‮ ‬بل لعلي لا أنكر أنني أستريب في تعبير الربيع مقرونا بالثورة العربية،‮ ‬فالثورات ليست فصولا تتكرر كل موسم،‮ ‬والربيع في هذه المنطقة‮ - ‬في الطبيعة علي الأقل‮ - ‬فصل قصير العمر،‮ ‬محصور بين الشتاء والصيف‮!!

ومسميات‮ "‬الربيع‮" ‬كلها فاشلة،‮ ‬من‮ "‬ربيع أوروبا‮" ‬1848‮ - ‬إلي‮ "‬ربيع براج‮" ‬سنة‮ ‬1968‮ - ‬كلها خيبات أمل‮!!

أضف إلي ذلك شيئا وهو أن هناك قوي تحاول الاستيلاء علي‮ "‬الربيع العربي‮"... ‬كما يسمونه‮... ‬وتحاول استغلال موسمه،‮ ‬وتحاول تزويقه بزهور وورود صناعية،‮ ‬تروج لها وكأنها زهور الطبيعة تفتحت وحان قطافها‮!!

‮ ‬خذ ما تفعله أو تقوله السياسة الأمريكية هذه اللحظة في كل مكان في المنطقة‮ ... ‬لا أحد في مقدوره أن يقنعني أن البستاني الموهوب في فردوس‮ "‬الربيع العربي‮" ‬هو الرئيس الأمريكي‮ "‬باراك أوباما‮"‬،‮ ‬أو وزيرة خارجيته الطموحة‮ "‬هيلاري كلينتون‮"‬،‮ ‬أو الرئيس الفرنسي‮ "‬نيكولاس ساركوزي‮"‬،‮ ‬أو رئيس وزراء بريطانيا‮ "‬داڤيد كاميرون‮"!!

‮ ‬وخذ أيضا مواقف‮ "‬مجلس التعاون الخليجي‮"‬،‮ ‬ومع احترامي لكثيرين فيه،‮ ‬فهو لا يستطيع أن يقدم نفسه راعيا لربيع الحرية‮!!

لا‮ "‬البنتاجون‮" ‬بستاني‮ "‬الربيع العربي‮". ‬ولا‮ "‬مجلس التعاون الخليجي‮" ‬هو مجلس قيادة ثورة الديمقراطية في العالم العربي‮.

 ‮   ‬تأمل بدقة ما يجري مثلا في سوريا،‮ ‬في هذا البلد نظام سيئ،‮ ‬وهناك‮ ‬قوي كثيرة في سوريا بالفعل ترفضه،‮ ‬وفي كل الأحوال فقد طال حكمه بأكثر مما هو صحي،‮ ‬وأكثر مما هو أخلاقي،‮ ‬لأن طول البقاء في السلطة إلي درجة توريثها بإصرار،‮ ‬يفاقم سلبيات السلطة،‮ ‬ويستنزف أداءها،‮ ‬بمعني أن في سوريا بالفعل حالة ثورية،‮ ‬لكن هناك من يستغل هذه الحالة،‮ ‬ويوظِّف‮ "‬الربيع العربي‮" ‬لصالحه،‮ ‬ولك أن تقرأ كامل التقرير الذي قدَّمه رئيس مراقبي الجامعة وهو الفريق‮ "‬الدابي‮" ‬ففي هذا التقرير يتحدث الرجل صراحة عن أخطاء للنظام جسيمة،‮ ‬وعن خطايا رصدها فريقه،‮ ‬لكنه يتحدث أيضا عن ضحايا لم يقعوا،‮ ‬وعن مشاهد لم تحدث،‮ ‬وعن صور وأصوات يجري تصنيعها بالتدليس والتزييف،‮ ‬وكثير منه في معامل باريس ولندن،‮ ‬لكن هذ التقرير تم إجهاضه منذ اللحظة الأولي من قبل أن يخط مقدمه حرفا واحدا في نصه،‮ ‬علي أنه تقرير كاشف،‮ ‬ثم إن الظروف التي أحاطت به ملتوية القصد،‮ ‬وفي الواقع فإن هناك حالة ثورة في سوريا،‮ ‬لكن هناك من يحاول الاستيلاء من الخارج علي الثورة وعلي سوريا‮!!

دعني أذكرك أن ذروة المعركة علي روح الثورة السورية وعلي سوريا نفسها سوف تبلغ‮ ‬ذروتها خلال أسابيع،‮ ‬ومصر مشغولة مستغرقة في مطاردة نيران متفرقة،‮ ‬لا تعالج صميم مشاكلها،‮ ‬ولا تفتح طريقا لحلها،‮ ‬وأسوأ من ذلك فلا يبدو لي أننا في مصر واعون بما يجري،‮ ‬ولا مهتمون به،‮ ‬رغم أنه إذا نجح في مقصوده،‮ ‬واستولي علي الثورة في سوريا،‮ ‬فقد استولي علي سوريا ذاتها‮.‬


دعني أستطرد من هنا إلي ملاحظة جانبية لكنها بالنسبة لي مهمة،‮ ‬لأنها تتصل بعدد من المفكرين والمثقفين في مصر،‮ ‬بينهم أصدقاء أعزاء أكن لهم إعجابا‮ ‬غير محدود،‮ ‬فقد قرأت ما يفيد أن بعضهم وقَّع علي بيان يطالب بمقاطعة بضائع روسيا والصين،‮ ‬بسبب استخدام الدولتين لحق الڤيتو ضد مشروع يتعلق بسوريا عُرض علي مجلس الأمن‮.

أذكِّر هؤلاء الأصدقاء،‮ ‬وأنا أفهم انحيازهم للحرية وحقوق الإنسان،‮ ‬وأشاركهم هذا الانحياز‮ - ‬أننا جميعا مطالبون بشيء من التدقيق لا يسمح بتناقض لا ضرورة له بين قيمة الحرية وبين حركة التاريخ،‮ ‬لأن الاثنين قيمة الحرية وحركة التاريخ في اتجاه واحد‮.

في يوم من الأيام قبل قرابة تسعين سنة كانت في‮ "‬الشام‮" ‬ثورة حقيقية،‮ ‬أطلقوا عليها وصف الثورة العربية الكبري،‮ ‬وكان ثوار الشام علي حق،‮ ‬لكنهم وقعوا في فخ الاستعانة بالشريف‮ "‬حسين‮" ‬وأبنائه قائدا لها،‮ ‬واعتمد الشريف‮ "‬حسين‮" ‬بدوره علي الكولونيل‮ "‬لورانس‮" ‬الذي ادعي لنفسه دور قيادة الثورة العربية،‮ ‬وانتهي بالطبع وبالوظيفة إلي تسليمها بالكامل لمطامع بريطانية،‮ ‬ووضعها تحت سلطة الماريشال‮ "‬اللنبي‮" (‬القائد العام للقوات البريطانية‮).

الثورة العربية الكبري كانت ثورة حقيقية،‮ ‬لكن الشريف‮ "‬حسين‮" ‬وأولاده،‮ ‬والكولونيل‮ "‬لورانس‮" ‬وقائده‮ "‬اللنبي‮" ‬دفعوا مسار ثورة‮ "‬الشام‮" ‬إلي سيطرة فرنسا وإنجلترا،‮ ‬وفي أسر اتفاقية‮ "‬سايكس بيكو‮" ‬القديمة‮.

وما أريد قوله هو‮: ‬نعم نحن مع الشعب السوري في ثورته،‮ ‬لكنها لابد أن تظل ثورته لا يأخذها‮ ‬غيره‮.

وفي الواقع وعلي الأرجح فإن كلا من روسيا والصين باستعمال‮ "‬الڤيتو‮" ‬لم يكونوا في معارضة الثورة في سوريا،‮ ‬ولكنهم فيما أتابع وأفهم يعارضون تفويضها إلي‮ ‬غير السوريين‮ - ‬إلي الشريف‮ "‬حسين‮" - ‬وإلي‮ "‬لورانس‮" - ‬وإلي‮ "‬اللنبي‮"!!

وهذا موقف يمكن شكرهم عليه،‮ ‬حتي إذا كانوا يتخذونه لصالح مطالبهم الاستراتيچية،‮ ‬فذلك ما يفعله أي طرف قوي،‮ ‬لكنهم‮  ‬خُدِعوا مرة قبل ذلك في ليبيا،‮ ‬فقد أجازوا في مجلس الأمن قرارا أخذوا الوعود والعهود بأنه سوف يظل في حدوده،‮ ‬وأهمها أن القوة العسكرية الأوروبية الأمريكية لن تُستَعمل في ليبيا،‮ ‬وجري تقديم الوعد والعهد بالتحديد إلي‮ "‬ميدفيديف‮" ‬رئيس روسيا،‮ ‬و"چينتاو‮" ‬رئيس الصين،‮ ‬وقُدِّم إلي الرئيسين مختوما بتعهُّد من قادة الغرب مباشرة،‮ ‬لكن هؤلاء راوغوا وتدخلوا بقواتهم الجوية،‮ ‬وبضربات الصواريخ الموجَّهة،‮ ‬وبقوات خاصة نزلت علي الأرض،‮ ‬وكانت هي التي فتحت طريق‮ "‬طرابلس‮"‬،‮ ‬وليس لنا أن نلومهم إذا رفضوا أن يُلدَغوا من نفس الجُحر مرتين‮!!

ومُناي علي أصدقاء أحبهم وأعترف بدورهم‮ - ‬أن يقرأوا كتابا عن الثورة الليبية نشره في باريس أخيرا‮ "‬برنارد هنري ليڤي‮"‬،‮ ‬وهو الصديق وثيق الصلة بالرئيس الفرنسي‮ "‬نيكولا ساركوزي‮"‬،‮ ‬وهو المتعاطف أكيد مع إسرائيل،‮ ‬ليس لأنه يهودي،‮ ‬ولكن لأنه عاشق للدولة الصهيونية حسب قوله هو‮ - ‬وكتاب‮ "‬ليڤي‮" ‬الجديد عنوانه‮ "‬الحرب بدون أن نحبها‮" ‬La Guerre sans l’ aimer ‮ ‬يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي‮"‬،‮ ‬وقد شرح فيه‮ "‬برنارد ليڤي‮" ‬دوره العملي فيما جري في ليبيا،‮ ‬وهو بالضبط كتاب‮ "‬أعمدة الحكمة السبعة‮" ‬لـ‮ "‬لورانس‮"‬،‮ ‬مع اختلافات واسعة في الجنسيات وفي الكفاءات،‮ ‬وبعض ما يرويه‮ "‬ليڤي‮" ‬في كتابه‮ "‬مرعب‮"‬،‮ ‬فهو يقول بصراحة إنه صانع ما جري في ليبيا ومدبره،‮ ‬وإنه هو الذي كتب بيانات المجلس الانتقالي في ليبيا،‮ ‬وأنه هو الذي حرَّك دفعات المال وشحنات السلاح من كل مكان إلي ليبيا،‮ ‬وهو الذي دعا إلي حشد القوات،‮ ‬ولقد بلغت صراحته حدا‮ ‬غير معقول عندما وجَّه اللوم إلي رئيس الوزراء البريطاني‮ "‬داڤيد كاميرون‮" ‬لأنه لم يقبل بالمشاركة في العمليات إلا بعد أن أخذت الشركات البريطانية نصيبا من بترول ليبيا مقدما‮!.. ‬يقول ليڤي أيضا إنه هو الذي نصح بتوظيف جامعة الدول العربية لتكون جسرا لوضع ليبيا في سلطة مجلس الأمن كي يطبق فرض حظر جوي انتهي بالطريقة التي رأيناها‮.

أردت هذه ملاحظة علي الهامش،‮ ‬واستطرادا خارج السياق،‮ ‬لأن القضية تختص برجال ونساء أقدرهم وأحترم فكرهم وعطاءهم‮.

والخلاصة أن هناك حالة ثورة في سوريا،‮ ‬لكن ما حولها مثير للقلق،‮ ‬معبأ بالمخاطر،‮ ‬مزعج إلي أبعد حد،‮ ‬وعلي الأقل فإن‮ "‬لورانس‮" ‬أعطي نفسه وصف صديق العرب ونصيرهم،‮ ‬ثم إنه كان يمثل الإمبراطورية البريطانية في ذروة قوتها،‮ ‬ثم إنه كان مسئولا أمام‮ "‬تشرشل‮"‬،‮ ‬ثم إن النص الأدبي الذي كتبه‮ "‬لورانس‮" ‬في‮ "‬أعمدة الحكمة السبعة‮" ‬كان أرقي وأعمق بكثير من نص‮ "‬الفودفيل‮" ‬الذي كتبه‮ "‬ليڤي‮"‬،‮ ‬وعلي أي حال فهو فارق زمن وزمن،‮ ‬وإمبراطورية وإمبراطورية،‮ ‬وموهبة وموهبة،‮ ‬لأنه حتي في‮ "‬الشر‮" ‬هناك درجات،‮ ‬وهناك مستويات‮!!‬


وأعترف أنني أستطيع أن أفهم موقف حلف الأطلنطي،‮ ‬وأستطيع أن أفهم موقف أعضاء مجلس الأمن،‮ ‬ومن وافقوا علي القرار المقدم له،‮ ‬ومن اعترضوا عليه،‮ ‬لكني لا أستطيع فهم موقف‮ "‬مجلس التعاون الخليجي‮" ‬مثلا،‮ ‬ولا بعض المجالس العربية‮ ‬غيره‮!!‬


والحقيقة أنه يجب أن نضع‮ "‬الڤيتو‮" ‬الروسي،‮ ‬و"الڤيتو‮" ‬الصيني في إطاره ومعناه،‮ ‬وإذا فعلنا فإن علينا جميعا أن نراجع تقرير الرئيس‮ "‬أوباما‮" ‬عن استراتيچية أمريكا الجديدة في هذا القرن،‮ ‬وسوف نجد أن هذه الاستراتيچية تتجه إلي الشرق،‮ ‬أي إلي المحيط الهادي قُرب الصين مع احتواء روسيا،‮ ‬ولكي يتحقق ذلك بأمان فإن منطقة الشرق الأوسط التي كانت منطقة صراع الحرب الباردة لابد أن تتم تصفية بقايا مشاكلها بسرعة،‮ ‬لأنها علي خلفية المسرح الآسيوي الجديد،‮ ‬ومخاطره الطالعة خصوصا من الصين‮.

وكذلك فإن الهدف المباشر المقصود في المنطقة الآن هو‮ "‬إيران‮" - ‬ضرب‮ "‬إيران‮"‬،‮ ‬وإخلاء الفضاء السياسي والاستراتيچي في المنطقة لسيطرة القوة الإسرائيلية دون منازع،‮ ‬إلي جانب تصفية ما تبقي من القضية الفلسطينية تصفية كاملة ونهائية،‮ ‬وعند إجراء أي حساب حقيقي،‮ ‬فقد أقول‮:

إن هذا الـ‮ "‬ڤيتو‮" ‬ليس من أجلنا،‮ ‬ولكنه أيضا ليس ضدنا‮.

بل إنه ليس ضد الثورة في سوريا إذا كانت الثورة في سوريا قادرة مستغنية بقوي شعبها،‮ ‬لا تكرر مشاهد التاريخ،‮ ‬ولا تحتاج إلي الشريف‮ "‬حسين الهاشمي‮"‬،‮ ‬والكولونيل‮ "‬لورانس‮"‬،‮ ‬والماريشال‮ "‬اللنبي‮"‬،‮ ‬ولا تنتظر لتقرأ‮ "‬أعمدة الحكمة السبعة‮" ‬مرة أخري،‮ ‬أو أن تطالع طبعة أخري من الحرب دون أن‮  ‬نحبها‮ - ‬بقلم‮ "‬ليڤي‮" ‬آخر‮ - ‬لم تعرف بعد من هو‮!!

 ‮   ‬‮ ‬وفي وسط هذه الأحوال كلها،‮ ‬وكلها واصلة إلي الذروة خلال أسابيع‮ ‬أو بضعة شهور،‮ ‬فإن مصر تبدو‮ ‬غارقة وغائبة في عالم آخر‮.

مجلس عسكري لا يحق له ولا يستطيع أن‮ ‬يحكم‮ ‬،‮ ‬وجماهير‮ ‬غاضبة،‮ ‬وشباب حائر بطبائع الثورة ذاتها،‮ ‬وهتاف بسقوط حكم العسكر،‮ ‬ووزارات مُحاصَرة،‮ ‬وانتخابات مجلس شعب فاتت علي أي حال،‮ ‬وقد جاءت بنوع من السند المؤسسي لأحوال مضطربة ومرتبكة،‮ ‬مع أن ضعف الإقبال في المراحل الأخيرة من تلك الانتخابات،‮ ‬وأيضا ضعف الإقبال علي انتخابات مجلس الشوري‮ - ‬أظهر علي نحو ما أن هناك عدم ارتياح عام لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات،‮ ‬إلا أننا لم نختبر بعد مدي صلاحية هذا المجلس علي الإسهام في صنع مستقبل،‮ ‬ومع ذلك كله وإضافة عليه يكون أمامنا وبدون دستور أن ننتخب رئيسا جديدا لمجرد سد فجوة فراغ‮ ‬في السلطة،‮ ‬والسلطة ليست هي المشكلة،‮ ‬وإنما المشكلة هي الدولة،‮ ‬والدولة مكشوفة ومعرضة‮!!

وأرجوك ألا تسألني ما العمل؟‮!!

العمل عند أولئك الذين يملكون المستقبل ويقاتلون من أجله،‮ ‬جيلنا لا يعرف،‮ ‬وهو كما قلت يستطيع أن يحاور،‮ ‬ويستطيع أن يحذر،‮ ‬لكن خريطة الطريق عند‮ ‬غيره،‮ ‬لأن طبوغرافيا الطريق إلي المستقبل في حوزته‮.

وأعرف أن المهمة شاقة،‮ ‬وهي أشبه بالوصف الذي قاله شاعر في وصف حاله حين قال‮:‬
إن حالي كزجاج فوق شوك نثروه‮ ‬
‮                             ‬ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

هو فعلا زجاج تكسرت شظاياه فوق حقل من الشوك،‮ ‬وعلي الحفاة أن يتقدموا لجمعه في يوم رياح خماسينية،‮ ‬حتي يفتحوا طريقا آمنا إلي مستقبل مأمول‮!!

8‮  ‬‮ ‬هناك قضية أخري وهي أن المشاعر حساسة مؤثرة بعد تجربة‮ ‬‮"‬الانتخابات النيابية‮" -‬فهناك من فاجأتهم النتائج‮- ‬وهناك من لم يتأقلموا بعد عليها حتي من بين الفائزين بها،‮ ‬وتكفي ساعة أو نصف ساعة في مشاهدة وقائع الجلسات،‮ ‬ثم إن هناك حالة وجع عام في البلد يزيد من حدته أن هناك من يتصورونها فرصة للانقضاض،‮ ‬أو الانفلات إلي الأهواء،‮ ‬ويفاقم من هذا الوجع أن المرجعيات التقليدية كلها لم تتغير،‮ ‬بل إنها جميعا مسرفة في الكلام،‮ ‬لا تعرف أن‮ "‬كثرة الكلام تسيء للمقام‮"‬،‮ ‬وإذا أضيف ذلك إلي عشرات الصحف الجديدة والفضائيات الملونة،‮ ‬بما فيه أن هناك كل ليلة أكثر من خمسين برنامجا حواريا‮ - ‬فإن الصخب شديد،‮ ‬والمناقشة الجادة في الدستور أو‮ ‬غيره تكاد تكون استحالة عملية ونفسية وفكرية،‮ ‬ولا يمكن لبلد أن يكتب ميثاق حياته،‮ ‬ويرسم خريطة طريقه في مثل هذا المناخ‮!!

وكثيرا ما يخطر ببالي في هذه الأحوال ما نقل عن الچنرال‮ "‬آموس يادلين‮" (‬مدير الموساد السابق‮) ‬في آخر تقرير قدَّمه للجنة الأمن والدفاع في الكنيست الإسرائيلي،‮ ‬عندما أشار إلي‮ "‬أنهم فعلوا في مصر ما لو أراد المصريون إصلاحه لعجزوا‮"‬،‮ ‬وفي الحقيقة فإننا نحن الذين فعلنا بأنفسنا‮ - ‬أكثر مما فعلوا بنا،‮ ‬وأليس‮ ‬غريبا أن النظام العربي المتمثل في الجامعة العربية قام علي ثلاث دول رئيسية‮: "‬العراق‮" ‬و"مصر‮" ‬و"سوريا‮"‬،‮ ‬ولقد جري تدمير‮ "‬العراق‮"‬،‮ ‬و"سوريا‮" ‬في مستنقع دم،‮ ‬ولم يبق إلا‮ "‬مصر‮" ‬في هذه الأحوال التي نراها،‮ ‬وإذا استطاعت أن تجد طريقا،‮ ‬فهناك الأمل‮!!‬


حاولت معك أن أشارك في بناء خريطة مجسدة ومجسمة للمشهد كما هو وبتضاريسه كما تبدَّت أمامي،‮ ‬وأما اختيار الطرق علي هذه التضاريس فهو مرهون بأجيالكم،‮ ‬أنتم الأقدر علي خياراتكم،‮ ‬وأنتم أصحاب المستقبل،‮ ‬ولو أن الشباب سأل أحدا من أجيالنا نفس السؤال‮: ‬ما العمل قبل‮ ‬25‮ ‬يناير‮ ‬2011‮ ‬لكانت إجابة أي واحد منا هي تصور حل تقليدي،‮ ‬والدليل أننا فوجئنا بالحدث العبقري الذي وقع في ذلك اليوم‮.

لم نكن نحن‮ - ‬مهما ادعي أحدنا لنفسه‮ - ‬مَنْ‮ ‬طرح السؤال،‮ ‬أو قام بالرد عليه‮.. ‬الشباب وكتل الجماهير هم الذين سألوا وأجابوا وفعلوا ما لم يفكر فيه‮ ‬غيرهم،‮ ‬ولم يجب عنه سواهم‮.

والآن دعني أسألك من جانبي‮.. ‬قل لي أنت ما العمل؟‮!!

‮ ‬أنت يا أستاذ‮ ‬أقدر مني ومن‮ ‬غيري علي الإجابة وأظنك قد أجبت‮ ‬،‮ ‬فقد رسمت خريطة‮ ‬،‮ ‬وجسدت تضاريسها،‮ ‬ووضعت علامات تشير إلي الطرق والمسالك‮ ‬،‮ ‬ورفعت إشارات تحذر من المنعطفات والمزالق‮.‬
بقي لمن ينظر أن‮ ‬يري‮ ‬،‮ ‬ولمن‮ ‬يقرأ أن يفكر ويتدبر،‮ ‬ثم يتصرف‮.‬
شكرا جزيلاً‮ ‬يا‮ »‬أستاذ‮« ‬ونأمل في لقاء آخر قريب‮ ‬،‮ ‬تسعدنا به‮ ‬،‮ ‬ويسعد‮ ‬قراء‮ »‬الأخبار‮«

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق